عمّان ـــ نقولا ناصيف
تتعارض كل من المقاربة الأردنية والمقاربة السورية لما يجري في العراق ولبنان. وتبدو إحداهما في بعض الجوانب على نقيض حاد من الأخرى نظراً إلى تباين المصالح والموقع والطموح الإقليمي لكل من البلدين. لكن اللافت وجود تقاطع شكلي في موقفي عمّان ودمشق، إذ تناديان بحل داخلي وآخر خارجي متلازمين في كل من البلدين المضطربين تحت وطأة الصراعات الإقليمية على أراضيهما.
ذلك ما تعبّر عنه مصادر دبلوماسية عربية بارزة في العاصمة الأردنية، على اطّلاع واسع على موقفي عمّان ودمشق، وتدرجهما في الآتي:
1 ـــ تلتقي عمّان ودمشق على أن الحل الأمثل لإعادة الاستقرار إلى العراق يكمن في إعادة توزيع السلطة على نحو يأخذ في الاعتبار المواقع السياسية والعقائدية والسكانية للمجموعات السياسية والطوائف والعشائر التي يتكوّن منها هذا البلد. واستناداً إلى المصادر الدبلوماسية العربية فإن قاسماً مشتركاً بين الأردن وسوريا يقول بتصويب المشاركة السنيّة في السلطة (إعادة تكوين الجيش العراقي السابق ووقف اجتثاث حزب البعث والاستعانة مجدّداً بالضباط والكوادر البعثية ممن لم تتلطخ أيديهم بالدم في عهد الرئيس الراحل صدام حسين وتأكيد وحدة العراق بصرف النظر عن نظام فيديراليات). وينطلق هذا الموقف من اعتقاد سائد في العاصمتين الأردنية والسورية مفاده أن الطبيعة الطائفية المعقدة للمجتمع العراقي، كما لبنان، توجب التوصّل إلى اتفاق يعيد بناء السلطة من خلال عدم استبعاد أي فريق طائفي أو سياسي يدخل في صلب هذا المجتمع بغية تجنيب العراق أي اضطراب في استقراره، بما في ذلك الأقلية التركمانية القادرة بدورها في حال استبعادها على التسبب بقلاقل تعرّض الاستقرار الداخلي لهزات.
2 ــــ تحمل وجهة النظر هذه المصادر الدبلوماسية العربية على تأكيد ما كانت اطّلعت عليه عن موقفي الأردن وسوريا اللذين يعتقدان بضرورة إيجاد حل على الطريقة اللبنانية. ويبدو أن التلاقي غير المقصود بين الدبلوماسيتين الأردنية والسورية حيال المسألتين العراقية واللبنانية، يحملهما على تبرير القول بأن الفوضى السياسية الناشبة في لبنان حالياً تعود إلى انهيار التوازن الذي ساد علاقات الأفرقاء اللبنانيين في السنوات المنصرمة، بحيث أدت التحوّلات المهمة في الوضع اللبناني عام 2005، مع خروج سوريا من لبنان وسيطرة الغالبية النيابية على آلة الحكم، إلى خلل في السيطرة على الوضع الداخلي تحت وطأة تدخّلات خارجية.
3 ـــ تنتقد عمّان أي محاولة ترمي إلى فتح واشنطن حواراً مع سوريا وإيران نظراً إلى مسؤوليتهما عن تدهور الأوضاع في العراق ولبنان معاً بسبب نفوذهما فيهما، أضف أن حواراً كهذا يُضعف تعويل واشنطن على دول الاعتدال العربي المحيطة بالعراق ولبنان، أي مصر والسعودية والأردن.
وتفضّل العاصمة الأردنية وجهة أخرى لتحقيق حدّ أدنى من الاستقرار السياسي والأمني في العراق، تقضي بإعادة الروح إلى المفاوضات الإسرائيلية ـــ الفلسطينية، مع إدراكها في الوقت نفسه أن التوصّل إلى تسوية جدية دونه عقبات رئيسية.
وتلاحظ الدبلوماسية الأردنية أن اندفاعاً محتملاً لهذه المفاوضات التي لا دور لسوريا وإيران فيها على الطاولة، من شأنها نقل عدوى تأثيرها إلى العراق، من غير أن تخفي في الوقت نفسه مقدرة دمشق وطهران اللتين تدعمان «حماس» على العرقلة.
4 ـــ تبدو دمشق واثقة أكثر من أي وقت مضى بأن الحوار مع واشنطن آت. وتستشهد المصادر الدبلوماسية العربية بما سمعته من جهات بارزة في الدبلوماسية السورية التي تصف الواقع الحالي بأنه أشبه بجدار بدأت المياه تتسرّب من شقوقه الكثيرة، ولم تكن هذه هي الحال في الأشهر الأخيرة. إذ سُدّت تماماً آفاق الاتصال المباشر بين الإدارة الأميركية والقيادة السورية، وأوصدت أبواب الحوار ما خلا رسائل سياسية غير ذات جدوى نقلها من دمشق نواب وشيوخ أميركيون سبقت ثم تلت تغييرات أساسية في الإدارة الأميركية ومن حولها طرأت بعد انتصار الحزب الديموقراطي في الانتخابات النصفية في الكونغرس وخروج المحافظين الجدد من الإدارة وتقرير بايكر ـــ هاملتون الذي أوصى بحوار مشروط مع سوريا وإيران.
ويختلف التقويم الأردني عن ذاك السوري في مقاربة هذا التقرير. ففيما تؤيد عمّان تشخيص المشكلة التي عرضها وتعارض بعض خلاصاته وأخصّها الحوار مع سوريا. ترى دمشق أنه أبرَزَ الحاجة إلى الحوار بعد سنتين من انقطاع كامل على أثر استدعاء السفيرة الأميركية في دمشق مرغريت سكوبي من مقر عملها في 16 شباط 2005 بعد يومين من اغتيال الرئيس رفيق الحريري (تشغل الآن منصب مديرة الشؤون السياسية في السفارة الأميركية في العراق). كذلك لا تتوهم دمشق اقتراب حوار ليس في سلم الأولويات الأميركية في الوقت الحاضر، ويلح على استجابة لائحة الشروط الأميركية.
والواضح بالنسبة إلى الأردن الذي يدعم حكومة رئيس الوزراء العراقي نور المالكي، أنه لم يتردّد في توجيه رسائل امتعاض من الطريقة التي تتّبعها واشنطن في إدارة العراق، بعض تلك الرسائل كان بغض طرف المملكة، شأن مجالس العزاء في مدن أردنية حداداً على زعيم تنظيم «القاعدة» في الأردن أبي مصعب الزرقاوي. وشأن تظاهرات الاحتجاج على إعدام الرئيس العراقي السابق قبل أسابيع، وقد شاركت فيها أحزاب ونقابات أردنية بينها «الإخوان المسلمون» الممثلون في الحكم العراقي، وإن هم تحفظوا عن بعض شعارات التنديد بالحكومة العراقية التي أطلـــقت في التـــظاهرات رفضــــاً لذلك الإعدام.
وبعض مغزى ذلك عدم رضى عمّان عن استبعاد السنة عن الحكم وترجيح كفة الشيعة، الغالبية السكانية، في إدارة مقدرات هذا البلد، وتعمّد واشنطن تجاهل نصائح وجهتها إليها الرياض والقاهرة وعمّان على أنها دول المحور السني الذي يقف على الجانب الآخر من المواجهة مع إيران.
5 ـــ خلافاً لما تذهب إليه عمّان بتوجيه الانتباه إلى إحياء المفاوضات الفلسطينية ــــ الإسرائيلية، فإن سوريا بحسب المصادر الدبلوماسية العربية تتخذ من النموذج اللبناني قياساً معقولاً لمطابقته على واقع العراق، إذ تقول دبلوماسيتها بأن الحل الداخلي يقتضي أن يلازمه حل خارجي هو الأخذ في الاعتبار مصالح الدول المحيطة بهذا البلد كإيران وتركيا والسعودية وسوريا والأردن نظراً إلى فاعلية نفوذ كل منها على الأرض العراقية، وتفهّم المصالح الأمنية والعسكرية والسكانية والمذهبية والعقائدية والاقتصادية والاستراتيجية لكل من هذه الدول من أجل دفع هذا البلد إلى شاطىء الأمان وكف جواره عن زعزعة استقراره، على نحو مماثل للواقع اللبناني الذي لا يستعيد جانباً من استقراره السياسي والأمني دونما الأخذ بمصالح جاريه، أي سوريا وإسرائيل.