جان عزيز
ينتهي «الأسبوع اللبناني» القصير جداً في طهران، وأنت تتذكر فيلماً أميركياً طويلاً، لمخرج الخيال العلمي، جو شوماخر، عنوانه: «غرملينز» (Gremlins). قصة مخلوقات جميلة لطيفة خيّرة، تنقلب شياطين مطلقة، نتيجة الخطأ في التعامل معها، في شكل يخالف ثلاث قواعد ملازمة لطبيعتها، وفي شكل متزامن متلازم.
في طهران ومنها، لا يمكن مراقب المشهد اللبناني، إلا أن يتصوّر مماثلة مشابهة في ثلاثيتها: ماذا لو ارتكب خطأ مع إيران، جعلها تقرر امتلاك سلاح دمار شامل واستخدامه؟ وماذا لو ارتكب خطأ آخر على مستوى القضية الفلسطينية، جعل الشعار «الأحمدي نجادي» عن إزالة إسرائيل من الوجود، مشروعاً جدياً لدى البعض؟ وماذا لو ارتكب في وقت متزامن، خطأ ثالث في بيروت، يجعل من الحدود اللبنانية الجنوبية، نافذة ممكنة للرد؟
بين المجلس الأعلى للأمن القومي، حيث سحر «الرجل النووي» علي لاريجاني، ووزارة الخارجية حيث أسرار نائب الوزير مديرها العام، و«مكتب فلسطين» حيث يكتب علي أكبر محتشمي بجراح ما بقي من يديه (تنشر «الأخبار» سلسلة مقابلاتها معهم تباعاً بدءاً من اليوم)، ترتسم الأسئلة الثلاثة السابقة، مثل محاولات الإجابة عنها.
في المسألة الأولى، هل تريد إيران امتلاك سلاح دمار شامل؟ يعاجلك الجميع بالحديث عن فتوى «القائد»، بتحريم الأمر. هل يتناول نصّها الحرفي «امتلاك» سلاح كهذا أو «استخدامه»؟ يؤكد من اطّلع عليها، أنه يشمل الاثنين. لكن ماذا عن نهائية فتوى كهذه؟ وماذا عن إخضاعها لعوامل الزمان والمكان والظرف؟ أوَليس الفقه والاجتهاد في المبدأ عملاً ذرائعياً.
لا يقارب المسؤولون الإيرانيون الموضوع من هذه الزاوية. لاريجاني فضّل في حديثه الصريح طرقه من ناحيتين. قانونية وفنيّة. وأعطى الضمانتين لكل منهما: الخضوع للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتطبيق «معاهدة منع الانتشار»...
في المسألة الثانية: ماذا عن فلسطين وإسرائيل؟ هنا أيضاً تعمّ اللغة الواحدة، كل أطياف إيران. المحافظون والإصلاحيون، المتشددون والليبراليون، يردّدون الموقف نفسه: دولة واحدة فوق أرض فلسطين التاريخية. وقد يكون محتشمي، صقر الرعيل الأول للثورة، وأحد أبرز إصلاحييها اليوم، أفضل من يعبّر عن هذا الموقف.
بيد يمنى مبتورة من فوق المعصم، ويسرى لم يبق منها إلا إبهام ونصفا إصبعين آخرين، يجلس الناجي من المحاولة الإسرائيلية لاغتياله برسالة مفخخة في سفارة بلاده في دمشق عام 1983، بين شعار الخميني «فلسطين هي بضعة للعالم الإسلامي»، وبين خريطة الدولة الواحدة من البحر إلى النهر، وتحت عبارة «يا قدس إننا قادمون». تسأله عن هذه الطقوسية كلها، فيسهب ويسترسل، قبل أن يخلص إلى الهدف: «نحن نعارض قيام دولتين في فلسطين. هذا بلد واحد، يجب أن تكون فوقه دولة واحدة، لها حكومة واحدة منبثقة من إرادة كل جماعاتها، المسلمين واليهود والمسيحيين».
تقفز إلى ذهنك عندئذ مسألة الحدود الجنوبية للبنان، فتسأله عن إجماع اللبنانيين على القرار 1701، بما يتضمنه من القول بضرورة العودة إلى اتفاقية الهدنة مع إسرائيل، فيعود إلى مقولة «دعم ما يجمع عليه اللبنانيون»، قبل أن يلمّح إلى أن ما يقبله الشعب في مرحلة، قد يرفضه في مرحلة أخرى، ليخلص إلى الأساس بالنسبة إليه، حتى لو اعترف شعب ما بإسرائيل، «فما يقرّره الآخرون لا يلزمنا، لدينا مبادئنا واقتناعاتنا وقراءتنا».
حتى لاريجاني، كان صريحاً، «هناك في القرار 1701 ما هو لمصلحة لبنان، كما هناك ما هو عكس ذلك». لكنه حاز دعم الحكومة اللبنانية قبل تشققاتها الراهنة؟ ليعود الساحر النووي إلى اللازمة المعبّرة: «نحن ندعم كل ما يمكن أن يصدر عن حكومة وحدة وطنية».
هكذا تلج الفصل الثالث من السيناريو، بصورة مترنحة بين القلق والاطمئنان: ماذا عن «حزب الله»؟ هل تستعملونه بيدقاً في معركتكم ضد واشنطن وتل أبيب، رداً على اتهامكم لهما باستعمالهما بيادق محلية عدة في معركتهما ضدكم؟ يبتسم المسؤولون حيال الاستيضاح، ويرفقون ابتساماتهم بلغة جسدية تود التصريح: «يبدو أنكم لا تعرفونهم». غير أن بعض الأوساط الخبيرة تقول أكثر: «حزب الله» غالباً ما يقول للإيرانيين: لكم حساباتكم ومصالحكم، ولنا حساباتنا ومصالحنا كلبنانيين. واستناداً إلى هذا الواقع الذي خبرناه، نستنتج أنه يقول أكثر من ذلك للسوريين». لماذا هذا التمايز؟ «لأنهم لبنانيون، يعيشون في لبنان، ويعرفون أنهم باقون كذلك إلى الأبد». غير أن هذا التأكيد لا ينفي المسلّمة الإيرانية في دعم «الحزب». لاريجاني يتحدث عن «قداسة السبيل» الذي ينتهجه، ومحتشمي يعلن «واجب دعمنا الكامل والدائم»...
سيناريو التحوّل على طريقة «غرملينز»، هل يكتمل بهذه القراءة؟ تبدو المسألة صعبة مستبعدة، إن لم تكن مستحيلة. لكن الاحتياط، رغم كل شيء، واجب. ومن أبواب التحوّط نظريتان: واحدة تبنّاها على ما يبدو وليد جنبلاط، وتطمح إلى إزالة إيران وإبادة «شيعتها» في لبنان، ضماناً لاستقرار «ثورة الأرز». وثانية تبنّاها ميشال عون في 6 شباط الماضي، في كنيسة مار مخايل، بنقاط عشر، تلبنن الإشكالية والمقاربة والضوابط والحل.
ماذا يختار اللبنانيون؟ هل الأسوأ في ألاّ يختاروا؟ يبدو الأسوأ في ما اختارته «السنّية السياسية»، نظاماً وحكومة وأشخاصاً وأداءً.
ـــ يتبع غداً ـــ