السياسة والسلطة في لبنان
  • د. جود حاتم حيدر

    طبيعي أن يعتبر المراقب ما يجري في لبنان نزاعاً على السلطة، يتم بشكل قضم تدريجي لمواقع الرئاسات الواحدة تلو الأخرى، وهذا واضح من خلال تبادل الاتهامات من كلتا الجبهتين. فالحكم في لبنان ليس رئاسياً أو برلمانياً ولا يمكن اعتباره ديكتاتورياً، ونظرياً يصح اعتباره ديموقراطية توافقية يوزع الحكم فيها بين الطوائف الثلاث الكبرى على مواقع الرئاسات الثلاث مع الحفاظ على المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في التمثيل في بقية المواقع، وذلك تطبيقاً لاتفاق الطائف. ولكي تصح نظرياً هذه المعادلة بشكل قد يؤدي الى استقرار سياسي يفترض بكل رئيس ان يحظى بقبول عارم من طائفته أو ان يكون زعيماً عليها. لم يحظ لبنان بتمثيل كهذا في جميع مواقع الرئاسة معاً، وخصوصاً في موقع الرئاسة الأولى الذي خسر الكثير من صلاحياته بسب اتفاق كهذا.
    الاستقرار السياسي في لبنان بعد اتفاق الطائف كان هشاً وتحت رعاية سلطة خارجية تنظم عناصر التمثيل السياسي وتفرض المخطط الاقتصادي والاستراتيجي. والحال عليه من تناقض منطقي بين توزيع السلطة على الطوائف وبين المواطنية والتساوي في الحقوق بين اللبنانيين، وخصوصاً بعد صدور القرار 1559 وخروج الجيش السوري، وبعد الصمود في وجه العدوان الاسرائيلي وصدور القرار 1701، ما زلنا نسمع جميع الأطراف السياسية والطائفية المتنازعة تعتمد اتفاق الطائف سقفاً سياسياً وصيغة العيش المشترك ضماناً للاستقرار في لبنان. والحال عليه لا بد من أن يطرح السؤال نفسه عن المعنى الحقيقي للسلطة وعلاقتها بالسياسة في لبنان، ما يضطر الناظر الى تشريح السلطة في لبنان بكل مفاصلها القضائية والاقتصادية والعسكرية، وشرح الصلة بينها وبين السياسة إذا اقتضى الأمر. فالقضاء، وإن كان معطلاً كما هي الحال الآن، فلاستقلاليته عن السياسة مدلول استقرار وديموقراطية وضمان للدستور. الاقتصاد، وإن يكن على شفير الانحدار الآن، يبقى ذراع قوة للسياسة وخصوصاً من بوابة الدعم الخارجي. والقوى العسكرية ــ الأمنية، وإن كانت على مسافة متقاربة من جميع الأطراف السياسية داخل وخارج السلطة، تظل ذراع السياسة الأصلب في حماية الحريات وحماية الوطن. فالغموض الذي يكلل السلطة العسكرية منذ أوائل التسعينيات (اتفاق الطائف) وقدرة الجيش على دعم الاستقرار والحفاظ على توازنه الداخلي، والاستناد الى قوة عسكرية موجودة في أماكن وجوده، أي الجيش السوري، والتنسيق مع قوة محلية متبلورة شعبياً، أي المقاومة، في المناطق المحررة في الجنوب وأماكن عدم وجوده، كلها توضح من جهة أن السياسة في لبنان غير مرتبطة بمقومات السلطة الأساسية وخصوصاً العسكرية ــ الأمنية منها. ويصح القول بأن الانفصام بين السياسة والسلطة يوفر ثبات الإرث السياسي والزعامات الطائفية، ويحافظ على دور المرجعيات الروحية، ويفسر تكرار التركيبة السياسية نفسها في كل المراحل مهما تغيرت المعطيات. فالسياسة في لبنان بتركيبتها الطائفية التوافقية تتناقض مع السلطة وتحاول تدميرها خوفاً من ارتدادها على الذات، فالقضاء قد ينصف بين الأفراد ولا مكانة له في المحاصصات، والاقتصاد الخاص يتناقض والعام، والسلاح حاجة لأمن الوطن ويرعب الكانتونات. يعود السؤال مجدداً ليطرح نفسه عمن يمتلك قرار السلطة (لمن إمرة الجيش؟) في لبنان، ومن يرعى هذا التوازن الهش إذا كانت دعائم السلطة الثلاث بين مغيّبة وواهنة وغامضة؟
    لا حاجة إلى الرجوع الى ما قبل التمديد للرئيس إميل لحود وصدور القرار 1559 لمراقبة التطورات الطارئة على الجيش اللبناني الذي انتشر بشكل كامل لملء الفراغ الحاصل من جراء انسحاب الجيش السوري على رغم تشكيك بعض الأطراف في قدرته، والذي شارك في أعنف حرب شهدتها المنطقة العربية ضد الكيان الصهيوني، واستكمل الانتشار على الأرض المحررة في الجنوب على رغم تشكيك الأطراف نفسها، وكذلك حفظ الأمن والنظام على رغم التقلبات الأمنية والسياسية المتعاقبة والمترافقة بتعبير شعبي عارم وجارف، وكل هذا في فترة وجيزة وعلى رغم التشكيك عينه بالقدرات.
    والسلطة منفصلة عن السياسة، يرعى الجيش صيغة العيش المشترك، مستنداً إلى القرار السياسي التوافقي ومستنداً إلى عقيدة وحدته في الدفاع عن الأرض والشعب. إنها إرادة العيش بحرية مثقلة بتجربة تاريخية ومرتبطة بطبيعة أرض طيبة قد صاغت استراتيجيا دفاعية محصنة بوحدة جيش مع شعب مقاوم أمام كل الأطماع الخارجية وأصابعها الداخلية. ولئن السلطة منفصلة عن السياسة، فالمشاركة في القرار السياسي تبقى الحق الأدنى وفي الوقت عينه المطلب الأقصى لأي معارضة ما دام الطائف اتفاقاً والتعددية الطائفية بنياناً. فرفض الشراكة يعني استئثار بموقع من دون سلطة أي حالة هيبوقراطية لا تختلف عن اللصوصية.