نقولا ناصيف
رغم الغلبة الحادة للعامل الإقليمي في الاشتباك السياسي القائم بين حكومة الرئيس فؤاد السنيورة والغالبية النيابية من جهة، والمعارضة من جهة أخرى، فإن أفرقاء بارزين في قوى 14 آذار يقرنون جزءاً رئيسياً من هذا الاشتباك بأسباب لبنانية محلية لا تقلّ تعقيداً عن العامل الخارجي، ويعرفون كذلك أن أمر تفكيك عقد العاملين الخارجي والمحلي أُفلِتَ من أيدي اللبنانيين تماماً. فالتدخّل السوري والإيراني في المشكلة اللبنانية ليس أقل نفوذاً من التدخّلين الأميركي والفرنسي. إذ لا ينقضي أسبوع أو أقل إلّا يلتقي السفير الأميركي جيفري فيلتمان بعض الوزراء الفاعلين في قوى 14 آذار في حركة تشاور مستمرة، كذلك السفير الفرنسي برنار إيمييه الذي يدمج في الغالب تحرّكه وزياراته بين ذات اليمين وذات اليسار.
أما الدوران السوري والإيراني في لبنان، فمحوطان بغموض كلي ويستمدان تأثيرهما من طابعهما السري، أو في أبسط الأحوال الأمني في نطاق التجاذب الإقليمي للاشتباك اللبناني. وجاء الشق اللبناني في زيارة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني وكبير المفاوضين في الملف النووي علي لاريجاني للمملكة السعودية الأحد الفائت (14 كانون الثاني) ليكشف مزيداً من تأثير الأطراف الإقليميين في النزاع اللبناني، لكن من غير أن يُقدّم براهين ملموسة على توصّل هؤلاء إلى فصل العامل الخارجي عن العامل المحلي في الشأن اللبناني.
واستناداً إلى مصادر دبلوماسية واسعة الاطلاع، فإن اجتماع لاريجاني بالعاهل السعودي الملك عبد الله ووزير الخارجية سعود الفيصل لم يخرج عن نطاق المواقف المعلنة للبلدين بتشديدهما على وحدة المسلمين في المنطقة وفي لبنان والحؤول دون أي فتنة بين السنّة والشيعة، وكذلك تشجيع الأفرقاء اللبنانيين على التوافق. وأعاد لاريجاني تأكيد موقف حكومته هذا، وهو نفسه الموقف السعودي الذي كان قد سمعه وفد حزب الله من الملك عندما استقبله الأخير في 26 كانون الأول. أما الاجتماع الذي عقده المسؤول الإيراني ورئيس مجلس الأمن الوطني السعودي الأمير بندر بن سلطان، فذهب إلى أبعد من ذلك، عندما خاض بندر في بعض تفاصيل المشكلة اللبنانية ومواقف طرفي النزاع، إلا أن لاريجاني لم يستجب اقتراحاً قدمه بندر بتأليف لجنة سعودية ــــ إيرانية لمعالجة المشكلة اللبنانية. وكانت الحجة التي تسلح بها المسؤول الإيراني أن حكومته لا تريد الخوض في التفاصيل اللبنانية، مفضلاً حصر الدور الإيراني بطابع «توجيهي وإرشادي»، من دون أن يكتم مقدار تبنّيه وجهة نظر حليفه اللبناني ومشاركته الرأي أن ثمة دولاً أجنبية تتدخّل في شؤون هذا البلد وتحضّ، على غرار ما يحصل في العراق، على إثارة المشاعر لتوليد فتنة مذهبية.
وبحسب المصادر الدبلوماسية نفسها، فإن للتردّد الإيراني في الاضطلاع بوساطة مباشرة في لبنان أو غير مباشرة عبر جهود تبذلها مع السعودية وسوريا، بعداً مزدوجاً هو في صلب نظرة دبلوماسيتها إليه: أولهما أن الجمهورية الإسلامية توافق الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى على قوله إبان زيارته الأخيرة للبنان الشهر الفائت إن «الشيطان يقيم في التفاصيل»، وهي لا تريد التورّط في هذا الدور. وثانيهما أن إيران تجد نفسها عاجزة عن الاضطلاع بدور الوسيط بين طرفي النزاع في لبنان، توصلاً إلى حل للمشكلة، اعتقاداً منها بأن الحكومة اللبنانية وفريقاً رئيسياً من اللبنانيين ينظر إليها بعداء وكره شديدين.
ووفق فحوى مداولاته في السعودية، لم يُظهر لاريجاني حماسة في مجاراة الموقف السعودي الذي دعا إلى تعزيز التهدئة في لبنان في ظل الأمر الواقع السياسي القائم حالياً، معتبراً ــــ تبعاً للمصادر الدبلوماسية نفسها ــــ أن المطلوب هو حل سياسي متكامل وليس تهدئة تعبّر عن هدنة قد لا تكون كافية لتحقيق استقرار دائم. وبدا أن الموقف السعودي يميل إلى منح الحكومة اللبنانية، على أبواب مؤتمر باريس 3، جرعة قوية من الدعم في انتظار تحديد مسار التطورات في المنطقة المرتبطة على نحو مباشر بالاستراتيجيا الأميركية الجديدة في العراق، وكسب مزيد من الوقت.
وبحسب تقويم المصادر الدبلوماسية الواسعة الاطلاع لنتائج زيارة المسؤول الإيراني للمملكة، فإن الشق اللبناني في محادثات الطرفين يجب ألّا يُحمّل أكثر مما ينبغي. إلا أن لاريجاني أخذ على عاتقه الاتصال بحزب الله سعياً إلى توفير الظروف الملائمة لحل سياسي يأخذ في الاعتبار المصالح الحيوية للأفرقاء اللبنانيين جميعاً ويرسي تسوية متكافئة. بيد أن ذلك يحمل المصادر الدبلوماسية إياها على الاعتقاد بأنه لا مشاريع محددة لدى الدولتين الإسلاميتين القويتين في الخليج للبنان الذي يبدو مقدّراً له أن يستمر في صحراء الاشتباك الاقليمي والداخلي على السواء.
على النقيض من ذلك، فإن لأفرقاء بارزين في قوى 14 آذار أكثر من سبب يحملهم على تأكيد التطابق بين مأزق العامل الخارجي ومأزق العامل الداخلي من خلال إصرارهم على رفض التخلي عما تتشبّث المعارضة بالحصول عليه، وهو الثلث المعطّل في حكومة الوحدة الوطنية. بل يذهب هؤلاء إلى معارضة تأليف حكومة وحدة وطنية في ظل خلاف بينهم وبين المعارضين على كل شيء تقريباً: على توزّع السلطة في مجلس الوزراء (الثلثان المقرران والثلث المعطل) وعلى المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وعلى العلاقة مع المجتمع الدولي وتنفيذ القرار 1701، وعلى المشروع الاقتصادي والاجتماعي لمؤتمر باريس 3، وعلى طبيعة بناء علاقات مع كل من سوريا وإيران، وكذلك ــــ أولاً ودائماً ــــ على استمرار الرئيس إميل لحود في منصبه. وبمقدار ما تحمّل الغالبية ــــ يقول الأفرقاء البارزون في قوى 14 آذار ــــ حزب الله وزر هذا الانقسام الحاد، لا يترددون في تحميل الرئيس نبيه بري وزراً مماثلاً بعدما نجح في شلّ فاعلية السلاح الأقوى الذي لا تزال تمسك به الغالبية في مجلس النواب منذ انتخابات 2005، وهو سيطرتها على الأكثرية المطلقة فيه.