strong> جوان فرشخ بجالي
قد يلفت نظر الزائر لمبنى الأمم المتحدة في نيويورك قطعة آثار مغطاة بكتابة مسمارية. إنها أول اتفاقية سلام دولية في العالم، وهي مكتوبة باللغة الحثّية. الحثيون شعب لم يكتشفه العالم الحديث إلا منذ قرنين. حضارة اندثرت منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة بعدما كانت قد احتلت الشرق الأوسط، ونهبت بابل وصدّت جيوش رعمسيس الثاني. حضارة كانت نشأتها ومكان سلطتها دوماً الأناضول.
«حتوشة، عاصمة الحثيين العظيمة» هو عنوان المحاضرة التي ألقاها الأستاذ الجامعي المختص بهذه الحضارة هيرمن غينز والتي نظمها أصدقاء متحف الجامعة الأميركية في بيروت، في إحدى قاعات المتحف.
بعد إعطاء شرح كامل عن تاريخ هذه الحضارة من فترة ولادتها في القرن 18 ق. م. حتى نهايتها مع فتح «شعوب البحر» الذين دمروا كل المدن الساحلية عام 1200 ق.م، قال غينز إن أسباب انهيار هذه الحضارة كانت «الحروب الأهلية الدائرة بين أفراد العائلة المالكة للوصول الى العرش. وقد أدت الحروب تلك الى أزمات اقتصادية خانقة. فبعض الرسائل التي اكتشفت في مكتبات «حتوشة» كانت تستجدي من الملك إرسال الحبوب لأن الشعب يموت من الجوع».
أول ذكر للحثيين في المراجع التاريخية كان على يد مؤرخي الفرعون رعمسيس الثاني الذين أكدوا انتصاره على جيوش الحثيين في معركة قادش. ويقول غينز «ان تلك النقوش بمثابة الدعاية الفرعونية الكاذبة إذ إنها لا تمت للواقع بصلة. فالحقيقة انجلت بعد اكتشاف الحضارة الحثية وقراءة مراجعها التاريخية. رعمسيس الثاني كان قد خسر في قادش واستطاع بصعوبة إنقاذ نفسه وما تبقى من جيوشه. ولكن كان لتلك المعركة أهمية كبرى لتاريخ الحضارتين اللتين وقّعتا معاهدة سلام وعرفتا من بعدها قروناً من الطمأنينة والتعاون العسكري والاقتصادي».
«حتوشة» هي عاصمة الحثيين. تقع في قلب الأناضول وعلى علو 900 متر من سطح البحر. وهي تعرف اليوم باسم قلعة بوغاز وقد صنّفتها اليونسكو على لائحة التراث العالمي. لقد اكتشفت مدينة حتوشة الأثرية عام 1834، ومنذ عام 1904 لم تتوقف التنقيبات الأثرية داخل أسوارها التي قسّم بناؤها الى جزءين. في الجزء السفلي اعتمد البناؤون على الصخور التي شيّدوا فوقها الجدران الطينية. وكان علماء الآثار قد أعادوا بناء جزء من هذه الأسوار كتجربة لتقدير صعوبة العمل والوقت الذي قد يتطلبه إنجاز أسوار تمتد لمسافة 2 كم.
تسعة أبواب رئيسية تصل المدينة بالعالم الخارجي، وقد زيّنت ثلاثة منها بنحوت لأسود وأخرى لإله. ولهذه النقوش معنى: فهم يحمون المدينة في حال تعرضها لهجوم ما. وفي التقاليد الدينية، يختلف الحثيّون عن بقية الحضارات والشعوب القديمة، فعدد الآلهة التي يعبدونها يتجاوز الألف، وهم يتغيرون وتختلف أسماؤهم بحسب الملوك والفتوحات. فالحثيون «يتبنّون» آلهة الشعوب الأخرى كآلهة لهم. ولكن على رغم هذه التغيرات يبقى إلها الشمس والطقس الأهم بالنسبة إليهم. ولكن للأسف لم يحفظ في المعبد الكبير أي من تماثيل الآلهة تلك. ويعيد البروفسور غينز السبب الى «صنعها من الخشب وتغليفها بالمعادن القيمة. فالخشب يتآكل ويتفتت والمعادن تسرق». ولكن تمكّن علماء الآثار من التعرف بأشكال بعض من تلك الآلهة من المنحوتات الصغيرة التي كانت تستعمل ذخائر في المنازل. ويمكن زائر مدينة حتوشة التعرف ببعض من تقاليد الحثيين الدينية. فهم كانت لهم معابد مبنية من الطين والصخر وأخرى في الهواء الطلق. فهناك العديد من المنحوتات على «جدران» الممرات الصخرية تصور شعائر الدفن والطقوس الدينية التي لا يزال علماء الآثار يحاولون فهمها. فالحثيون لم يدلوا بعد بكل أسرارهم.