جوزف سماحة
استقالة دان حالوتس خبر إسرائيلي من الدرجة الأولى، خبر لبناني من الدرجة الثانية، خبر عربي من الدرجة الثالثة.
أشاعت الاستقالة ارتياحاً عامّاً في إسرائيل. إنه ارتياح مشوب بقلق. لن يغفر الجمهور لرئيس الأركان الفشل. لا يطيق الإسرائيليون رؤية جيشهم يتعثّر. يطلبون سقوط رؤوس أخرى من المستوى السياسي بعد المستوى العسكري. لا يثقون بالقادة الذين يفترض بهم تعيين بدائل.
يخشى الإسرائيليون أن يكون حالوتس قد وضع أمامهم المرآة التي يرون أنفسهم، حيث هم الآن، فيها: رهان لا حدود له على التكنولوجيا. رهاب من التضحية. تعلّق بالكسب المادي. فردية منفلتة من عقالها. أمركة متزايدة. انتصار تل أبيب على القدس.
حالوتس، من وجهة نظر إسرائيلية، هو الدليل الحيّ على التناقض بين مجتمع ذي أهداف صهيونية وعقلية ما بعد صهيونية. الاندفاعة العدوانية هي هي من فلسطين إلى سوريا إلى لبنان، لكن الأداة غير متطابقة معها.
لذا قد تكون رسالة الاستقالة أهمّ من الاستقالة. الرسالة دعوة إلى أن يكون «الجيش مستعداً لمواجهة التحديات المقبلة»، أي إلى المزيد من الحروب (مع إيران، حسب زئيف شيف). وهي تذكير بأن «قدر دولة إسرائيل هو أن تواصل المحاربة من أجل وجودها». وهي ربط لهذا القدر «بالقدرة على ضمان النصر في القتال المتواصل وفي القوة المبنيّة على القيم وعلى التعليم النوعي وعلى الاقتصاد القوي وعلى الجيش القوي...» لا على «المراهنة» في البورصة يوم الحرب أو على إفادة الأصدقاء من خصخصة القطاع المصرفي!
يجب وضع الاستقالة في سياق فشل العدوان على لبنان. إلا أن الأصحّ من ذلك هو وضعها في سياق الاستعداد لمواجهات مقبلة. فإسرائيل، إذ تراجع الحرب، تراجعها تقنياً وتكتيكياً لكنها لا تصل إلى طرح أسئلة جدية على نفسها أي تلك الأسئلة التي ترغمها على النظر في توسّعيتها، وفي احتلالها، وفي علاقتها بالمحيط، وفي ارتباطاتها الخارجية، ولا، طبعاً، تلك التي تلامس وجودها بالشكل والمضمون اللذين اختارتهما لنفسها.
***
استقال حالوتس لأن «لعنة لبنان» أصابته. يجب علينا أن نعترف بأن بلدنا تأخّر في دخول الصراع. ولكن يحق لنا، بقدر من «الشوفينية»، ملاحظة أن إسرائيل لم «تًُوفق» كثيراً في حروبها اللبنانية.
ابتهج لبنانيون بتدحرج رأس رئيس الأركان. كانوا متشوّقين إلى مثل هذا الاعتراف بأن التضحية أثمرت. إلا أن لبنانيين آخرين بدوا غير مكترثين حتى لا نقول مزعوجين من احتمال «الاستثمار الداخلي».
إن قراءة باردة للعدوان الإسرائيلي توضح أن هناك من قاوم وأن هناك من كان يراهن فعلاً على نجاح الحرب في تحقيق أهدافها. وأي مقارنة بين ما أعلنته إسرائيل من مآرب وبين المشروع المعلن لفريق لبناني تُظهر تطابقاً لافتاً. لذا لم يكن غريباً، بعد هذا «القطوع» أن يندلع خلاف داخلي وأن تنشأ ضرورة ضاغطة على المقاومة لحماية نفسها وعلى خصومها للخلاص منها.
ومن يراجع خطاب «الخصوم» ينتبه إلى تأرجح بين تسجيل انتصار المقاومة وبين تأكيد الانتصار الإسرائيلي. إلا أن الاستنتاج، في الحالتين، واحد، وهو وضع دفتر شروط ينهض على أساس أن هزيمة حلّت بلبنان ويجب على المتسبّب بها أن يحاسب ويدفع الثمن.
لقد أدّى لبنانيون دوراً مميزاً في حصار المقاومة بعد الحرب. إنه، في الحقيقة، دور من وجهين. الوجه الداخلي هو ذلك الداعي إلى مزيد من الاستئثار بالسلطة، ورفض أي مشاركة، و«لبننة» البرنامج الدولي الذي تتحكّم في بنوده الولايات المتحدة. وظيفة ذلك منع ترجمة الأداء العسكري والسياسي في الحرب إلى توازن ضمن المؤسسات. أما الوجه الخارجي فهو إعادة تعليب ما جرى في لبنان لتقديمه إلى العالم العربي بصفته عدواناً «فارسياً» على العرب، واستثارة للفتنة المذهبية، ودافعاً كي تُسقط «أزقّة بيروت» السرايا.
يجب أن نتذكر الهلع الذي أصاب لبنانيين من وهج المقاومة في المدى العربي والإسلامي. يجب أن نتذكر ذلك لندرك أن التشويش على هذا الوهج يمثّل قاعدة لقاء بين سلطويين احتكاريين وقوى خارجية عبّرت عن خشيتها من انتشار العدوى اللبنانية عربياً، وخاصة إذا عطفنا التعثّر الإسرائيلي على التعثّر الأميركي في العراق.
لا مكان لدى هؤلاء اللبنانيين لمشاركة مواطنين لهم فرحة سقوط حالوتس. وعدوا أنفسهم بإجراء المحاسبة هنا فإذا بها تحصل هناك.
***
كان يفترض بالاستقالة، بعد حرب فاشلة على بلد عربي، أن تحدث دويّاً في المنطقة. لم يحصل ذلك. قد يقول قائل إنه لم يحصل لأن ما يجري في العراق، مثلاً، يغطي على كل ما سواه. ليس هذا هو التفسير المقبول.
إذا نظرنا إلى ما جرى في لبنان خلال الصيف الماضي بعيني النظام العربي الرسمي فإننا لن نرى الخطر في العدوان الذي ترافق مع ارتكابات إسرائيل في غزة. كلا. سنرى الخطر في أن هذا العدوان وُوجه بمقاومة ناجحة. المقاومة هي جرس الإنذار الذي أيقظ «المعتدلين العرب». أو، لنقل، هذا هو رأي كوندوليزا رايس التي نجحت، بموازاة استقالة حالوتس، في إصدار «البيان التأسيسي لمحور الاعتدال العربي».
المصير الذي آل إليه عدوان تموز يسمح، على الأقل، بالمساعدة في إعادة قراءة التاريخ العربي في العقود الثلاثة الأخيرة: لم تكن هذه التسوية مع إسرائيل قدراً، كانت خياراً أقدم عليه أصحاب السلطة. وبما أنهم يريدون الاستمرار على النهج نفسه فالمطلوب وضع ما حصل بين مزدوجين. ولا بأس من الطموح إلى أكثر بحيث يتحوّل إنجاز ضد إسرائيل إلى عنصر تعبئة ضد أصحاب الإنجاز وضد خطر بازغ حسب «الأجندة» الجديدة للمنطقة.
ليس معقولاً، إذاً، أن يحصل احتفال بذهاب حالوتس. يحتفل بذلك، فقط، من يدرك مغزى ما حصل، ومن يعدّ العدّة لمواجهات مقبلة على المنطقة أشار إليها حالوتس في الرسالة ـــ الوصيّة.