أنسي الحاج
متتبّع أحوال العالم يغرق في الجو القَدَري نفسه لمسرحيات أوريبيد وأسخيلوس وسوفوكل. لم تزد عليها معرفة الأزمنة شيئاً. تغيّرت التسميات. صار هناك قضاء محلّ القضاء والقدر، ودولة وقانون محل جبل الآلهة. لم تُحَلّ مشكلة واحدة من مشكلات الإنسان مع الحياة والموت، ولا حتّى مع أبسط تفاصيل الحياة اليوميّة، كسوء التفاهم والغيرة. كان الأقدمون أقرب منّا إلى الأمّهات، والمصادر تنام تحت وساداتهم. ليس هذا حنيناً، فالحداثة موفورة الرؤى ولم ينقطع أنبياؤها وعرّافوها عن التجاسد مع النواة الكونيّة. هناك يوريبيدات في العصور الحديثة، وشكسبير ليس يتيم الدهور ولو بدا أعرضهم منكبين. قصيدة صغيرة لبودلير قد تُغْني عن ملحمة. بل هي تُغني. وحوارات باهرة ونفّاذة في فيلم سينمائي تُذهل مرّات أشدّ من رواية كاملة لستندال أو تولستوي. بيت للمتنبي، رغم وصوليّته وعنصريّته، يختصر تجربة أجيال.
ليس حنيناً، بل محاولة للقول إن الأحداث، الصغار منها والجسام، ما برحت منذ الخليقة تعكس العجز نفسه والتحدّي نفسه والآلام والمساعي نفسها للإفلات من القبضة. تغيّرت الأشكال وطرق التواصل. الآلهة أعطت صلاحياتها للأنظمة والعصابات والمرشّحين المجهولين لتنفيذ أوامرها. المَحْق يَمْحق، الإبادة إبادة، الظلم ظلْم، الفجور فجور، النعمة نعمة، الفَرَج فَرَج، الذئب يتّهم والنعجة تدافع، واضع الطلسم يقطع الطريق ويأكل كلّ من لا يحزر اللغز ومن يحزر.

أصدق كلام سمعته من امرأة قولها: «لن ألتزم مع حبيب ولا لبضعة أيام. الآن أعشقه، غداً قد يضجرني». لو عاش الناس وفقاً لهذه القاعدة لانتفى الكذب وخيبة الأمل. لانتفى التعايش المتحامل على نفسه. لانتفت العفونة. عدم الوعد مقلق لكن ثمة قلق طاهر ومستقيم. ما دمنا في عالم لا يمنح الأمان فلمَ نتمانح أمانات كاذبة شبه منذورة للكسر فنزيد تهديدنا النفسي؟ لم يحسن الإنسان معالجة مشكلاته بالمعرفة والتعليم بل باللمسة التي فيه وتَفُوقُهُ وتجتاحه. بالنفحة التي تجعله أكثر مما هو. شكسبير وراسين وسرفنتيس وهوغو وغوته وبيكيت ويونسكو متعاصرون مع الأغارقة أوريبيد وأسخيلوس وسوفوكل لأنهم تحاكوا مع المصير بتلك النفحة. بذلك الفائق. في الأحيان الأساسية يبدون أبناء جيل واحد. وبلد واحد.
لا مجهول في التراجيديا ولا معلوم. لا نزال حيث وقف أوديب عند السفانكس سواء قَتَلْنا السفانكس كما فعل أوديب أو هو الذي قَتَلنا. الفرق في اللحظة فقط، العواقب واحدة. ولو لم يتغلّب أوديب على السفانكس لنجا مما رتّبه له كيد القَدَر بعد حين. حكاية شجرة المعرفة في نسخة غير يهودية. ولكنْ لم تقل لنا التوراة إذا كان مصير آدم وحواء، لو لم يأكلا الثمرة المحرّمة، كان سيكون أفضل.

العرب اليوم ضحايا التاريخ. لا أحد يبالي. لم يبالِ أحد بالهنود الحمر. بهنود أميركا اللاتينية. بضحايا هيروشيما. بضحايا النازيّة. بضحايا الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية. بضحايا فلسطين. بضحايا أفريقيا كبيرة المصلوبين. بضحايا أميركا اللاتينية الحديثة الممصوصة دماؤها. بضحايا الأنظمة. بضحايا الإعلام الكاذب. بضحايا مدنيّة الربح. بضحايا التجارب النووية. بضحايا التلوث البيئي. بضحايا السير. بضحايا المعلّبات. بضحايا الأدوية المغشوشة. بضحايا أجهزة الاستخبارات. بضحايا مكدّسي المليارات. بضحايا تجّار المخدّرات. بضحايا وحوش الطموح الكاسرة.
ليست دعوة إلى الحنين فلا شيء هنا يستحقّ الحنين، ولا دعوة إلى اليأس فكل ما يقال ضدّ القهر هو ترياق من اليأس. إنها دعوة متجدّدة لكسر التاريخ. على أمل تسخيره. إننا في حالنا الراهنة ضحايا التاريخ. نقعد تحته كما يستسلم القطيع إلى القطار الذي سيدهسه. لنخرج من حالة الانخطاف بالأحداث، بالأشخاص، ولننسلخ. نحن مسمَّرون في إطار الصورة المحنّطة، وإذا خرجنا ونزلنا عاد إلينا الهواء. التاريخ يهزأ بنا لأننا مخدوعون بهيبته. فلنتحرّر من سطوته. ما هو بأكثر من مجموع ما يحصل. فلنحصّل ما سيحصل، لنحصّله بأيدينا، بإرادتنا، بفك ارتباطاتنا الدهرية، بتجاهل السياسة وأهلها والدول وأربابها والانصراف إلى ما يُشعرنا بأننا أحياء، أحياء حتى الثمالة كلّ ثانية، نصنع لنا من يوميّاتنا وأهوائنا وحريّاتنا تاريخاً جديداً لم يلتحق بما قبله، لم تُصِبْهُ لعنات آبائه.

طبعاً نحتاج إلى التوقّع، إلى انتظار شيء، ولكنْ لمَ يكون سياسيّاً؟ لمَ لا يكون غير سياسي؟ هل نحن مدمنون إلى هذا الحدّ؟ لم تندفع الحياة شبراً واحداً بالزخم السياسي بل بغيره. ما سُجّل للسياسة من فضائل كان دوماً من خير الفلسفة والفكر والفنّ والشعر. الباقي جماجم. الباقي دسيسة وعدوان. أكبر كذبة في التاريخ اتهام بيزنطيا بأنها ضَعُفَتْ وسقطت لانشغالها بالجدل اللاهوتي، لانهماكها بالعقل. إذا كان هذا سبباً للسقوط فمرحى. ليأخذ البرابرة جميع القلاع، لن يأخذوا شيئاً. الجوهر بين الضلوع لا على العرش.
يتذكّر أحدهم بداية الأزمنة فيقول إنها كانت إزعاجاً شديداً، ثم يتذكّر نهاية الأزمنة ويقول: لا تزال هي إيّاها إزعاجاً شديداً.
لأنه ينظر من الزاوية التاريخيّة. السياسيّة. من ثقب الزمن. لو نظر من نافذة الشعور لما رأى من البداية إلى الآن غير بدايات. غير نهايات عند شواطئ البدايات. غير صبا دائم تتغيّر ألوانه فقط كما تتغيّر الأشجار في الفصول وتبقى الطبيعة الحيّة وفوقها إلهها الإنسان الكليّ الخيال الكلّيّ الحلم الكلّيّ الصراع. وصراعُه يُخجِل قاهريه ولا بدّ يوماً من أن يتقاعدوا.
طبعاً الانتظار جزء من العدّة. أين المفاجأة؟ وهل، إذا تُرك لنا الخيار، نستطيع أن نعيش بلا انتظار؟ المهمّ هو ماذا ننتظر. على حسب نوعه يكون تجسيده. دعوة إلى كسر البؤس السياسي بأحلام الأطفال. بكل سذاجة هذه الدعوة. تنظيف الجوّ باختراع جوّ آخر. الهرب إلى أوطان القلب. لا حنين ولا طوباوية بل حيلة. ثورة، ربّما، من نوع آخر.
كان المؤرخون ينسبون الأحداث إلى الآلهة، صرنا ننسبها إلى الفراغ. «جهات مجهولة». من لبنان إلى العراق راجت عبارات القتل المجهول الفاعل. «سيّارات ملغومة». «قصف عشوائي مجنون». «عناصر مدسوسة». دائماً هم الآخرون. والآخرون مرهوبو التسمية. «شيخ الجبل». أو إسرائيل. القاتل قريب إلى حدّ أننا نعتبر تسميته عاراً عائلياً. أو هو مرعب إلى حدّ أننا نفضّل استمراره في تقتيلنا متنكّراً على تسميته جهراً والتعرّض لغضبه المضاعف.
الحبائل نفسها منذ أول جريمة. التاريخ وجهة نظر. لكن النظر أعطي لما هو أجمل وأصفى. النظر أعطي لما يُمتّع النظرين، الخارجي والداخلي، فلنوجّه عيوننا نحوه.
هل هناك عشّاق بعد؟ قد تَصِلهم هذه الكلمات. هل هناك غير سلطويين غير متعصّبين غير مدمنين بعد؟ قد تصلهم هذه الكلمات. الآخرون يروحون ويجيئون مع أنّهم لا يتحرّكون. مسرحيّة في منام. هل يستيقظ النائمون وينام المستيقظون؟ «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا». السرّ الكبير. أين هو الكَرَم؟
الكَرَم هو ما يمحو ألم الأمس وما يتخطّى اليوم وما يتجاوز الغد. هو أن نعطي كلّ شيء وأن يَظنّنا المُعطى له نبعاً لا يَنْضُب.