جان عزيز
أي مصلحة للبنان وللبنانيين، في تحويل وطنهم إحدى ساحات المواجهة الواقعة أو المحتملة، بين واشنطن وطهران؟ هذا السؤال لا تطرحه الأوساط الحكومية في بيروت، بل هو مطروح بالعمق في الأوساط العارفة في العاصمة الإيرانية.
ففي إيران، وخارج المقار الرسمية والمباني الحكومية، وبعيداً عن أسماء المواقع والمقامات والصفات والرتب، ثمة جهات تعرف أسرار العلاقات اللبنانية ـــ الإيرانية وما حولها، وتكشف أو تلمّح إلى الخفايا التي لا يقولها الرسميون في أي من البلدين.
تبدأ رحلة الأسرار والألغاز، من العام إلى الخاص، ومن الأشمل إلى الأدقّ: «حقيقة الصراع أكبر من لبنان، وأكبر من إيران والملف النووي». يقول هؤلاء. إنها «الحرب العالمية الثالثة»، أو «الحرب الباردة الثانية»، بحسب الوسائل والأدوات التي ستنتهي إليها وبها. وكأن القراءة الايرانية لتشخيص حقيقة الأزمة القائمة في نطاق هذا «الشرق الأوسط الكبير»، تحاول القياس الى حقيقة الصراع الذي كان قائماً، زمن نظام القطبين والجبارين. فمنذ نحو 5 عقود، إثر انتهاء الحرب الثانية، خرجت الكتابات الأميركية تتحدث عن كيفية «الاحتواء المزدوج» للخصم الجديد في موسكو: الديموقراطية الليبرالية على حدوده الغربية، والأصوليات الدينية على حدوده الشرقية، ثم يترك للاختناق البطيء.
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ووسط احتفال الغرب بنظرية الفوكويامية حول الآحادية الأبدية، كان ثمة من يكتب ويخطط لاستراتيجية مواجهة «القطب» الجديد: الإسلام. وكان ثمة من ينظّر لسياسة الانهيار الداخلي المزدوج للاسلام، بعد نجاح الاحتواء الخارجي المزدوج للشيوعية: يُصدَّع الإسلام السياسي على حدود «فالقيه» الزلزاليين الأساسيين: الفالق السني ـــ الشيعي، والفالق العربي ـــ غير العربي. ثم يُترك لنهايته الذاتية، أو لانفتاحه على حل أزمته مع الديموقراطية الليبرالية.
قبل أحداث 11 أيلول بنحو عامين، صدر في واشنطن كتاب «شيعة العرب، المسلمون المنسيون»، يقول الخبراء في طهران. المؤلفان، نائب رئيس سابق لمجلس المخابرات القومية في «سي آي إي»، غراهام فولر، وخبيرة عراقية ـــ أميركية في شؤون الشرق الأوسط وجماعاته وتناقضاته: رند رحيم فرنكي. وينصح الخبراء أنفسهم بإعادة قراءة هذا الكتاب اليوم، في عرضه لفوالق الإسلام، المذهبية والعرقية، في كل من لبنان، السعودية، الكويت، البحرين، العراق وطبعاً إيران، وفي علاقة هذه التناقضات مع الغرب والتفاعل بين الطرفين.. «سيناريو كامل ومطابق لما يحصل اليوم في العراق، كُتب قبل سقوط بغداد بأكثر من 4 سنوات».
ماذا يعني هذا الكلام؟ بكل بساطة، ثمة من قرأ وقرّر أن يواجه مارد الإسلام المستيقظ من سبات القومية والأممية الأيديولوجية، عبر تفجير انقساماته، بين سنّة وشيعة، وبين عرب وغير عرب. وشاءت المصادفة أن تكون إيران في قلب هذين التقاطعين. فبدأ الإعداد لاحتمال من اثنين: إما حرب عالمية ثالثة، أو حرب باردة ثانية، والاحتمالان هدفهما الأول طهران.
ويذهب بعض هذه الأوساط إلى نوع من التحليلات البارانوية، فلا يستبعد أن يكون التصوّر المشار إليه مكتملاً من قبل، منذ إنتاج بن لادن الأفغاني مطلع الثمانينيات، وحتى الهتاف باسم مقتدى الصدر، لا المالكي مثلاً (!) عند إعدام صدام حسين.
وتضيف الجهات الإيرانية العارفة نفسها، اعتقادها بأن الصراع بات أكثر حدّة وسخونة، عندما بدا أن «البعض» في المنطقة انخرط في هذا المخطط وتبنّى الاستراتيجية المشار إليها. وتلمّح إلى أن هذا الالتحاق قد يكون على أساس حسابات مفادها، أن الحرب الجديدة ستؤدي حتماً إلى هزيمة «الإسلامين» الشيعي وغير العربي، فيقطف «الإسلامان» السنّي والعربي ثمارها على مستوى المنطقة وقيادتها.
وما علاقة لبنان بذلك كله؟ لا تستبعد الجهات نفسها أن يكون ثمة في لبنان من انخرط في المشروع نفسه، إما لوهم لبناني مماثل، وإما نتيجة للوهم الإقليمي الضاغط عليه والمؤثر في قراره.
لكن ألا تقوم إيران و«حزب الله» بالأداء التوريطي نفسه لبنانياً؟ تجزم الأوساط المذكورة بالنفي، وتعرض حججها وبراهينها والوقائع: «منذ نحو 10 أشهر، لدينا معلومات أن مبعوثاً إيرانياً توجّه من دون إعلام إلى بيروت، والتقى سعد الدين الحريري وسلّمه دعوة مفتوحة لزيارة طهران، من دون نتيجة. ومنذ 14 آب وحتى اليوم تفيد معلوماتنا بأن فؤاد السنيورة لم يترك فرصة لتحويل العلاقة اللبنانية ـــ الإيرانية كيس ملاكمة إلاّ واستغلّها على أكمل وجه، بما في ذلك لقاءاه مع وزير الخارجية الايرانية ونائبه. ومعلوماتنا نفسها تفيد بأن كل العراقيل وضعت في طريق تحسين الأوضاع بين العاصمتين، وفي طريق المساهمة الإيرانية في إعادة الإعمار عبر الحكومتين، وفي طريق تطبيع الأمور وشرعنتها وقوننتها بين الدولتين».
المعلومات نفسها تجد صداها في جداول الإحصاءات الرسمية في طهران: مئة مليون دولار أميركي فقط، هي قيمة الاعتمادات الإيرانية التي سمحت حكومة السنيورة بصرفها لإعادة الإعمار، على عكس النيات المعلنة من طهران. وأقل من النصف فقط سمح بتنفيذه حكومياً، فيما النصف الآخر لا يزال يواجه بالعرقلة والمماطلة، في ظل عدم توجيه أي دعوة طبعاً لمشاركة إيران «المانحة» في مؤتمر باريس ـــ 3.
«لدينا ما يكفي من ساحات المواجهة مع أميركا، ولا نريد قطعاً اندلاع صراع واشنطن ـــ طهران في بيروت. فلماذا يصرّ مسؤولوكم الحكوميون على عكس ذلك؟»، سؤال يكرّره أكثر من عارف إيراني، ومطّلع على الخفايا والأسرار. وهو سؤال أغرب ما فيه أنه خارج عن كل المشهور والمألوف، وأخطر ما فيه أن أحدا لا يجيب عليه،