إبراهيم الأمين
لم يعد ممكناً التوصل الى تفاهم جدي بين القوى السياسية في لبنان. فريق السلطة يتصرف على أساس أنه ليس أمام خصم جدي في لبنان. والكذبة التي أطلقها بات يتصرف على أساس أنها حقيقة، يقنع نفسه وجمهوره بأن هناك عدواً إيرانياً ــــــ سورياً يريد الشر للبنان، ولا يرى في اللبنانيين المعارضين له إلّا أقلية مضلّلة سيأتي يوم وتستفيق من سباتها، وإذا تأخرت فهي المسؤولة عن مصيرها. ورئيس الحكومة فؤاد السنيورة في وضع نفسي يصعب معه إقناعه بأن إدارة مصالح شعب بكامله تتطلّب مصالحة مع أغلبيته على الأقل، لكنه يرى أن من يعارضونه هم أقلية لا تعرف مصلحتها التي يعرف هو وحده كيف تتحقق. وبناءً على ما بات معروفاً من تفاصيل الوساطات المحلية والعربية والإقليمية فإن فريق السلطة يرى أن من حق المعارضة أن تدخل الحكومة كما كان عليه الوضع قبل 12 تموز.
وبعدما مضى ما مضى من وقت لمبادرات ووساطات أظهرت أن فريق السلطة ومعه القوى الخارجية في عالم آخر، وجدت قوى المعارضة نفسها أمام واقع يفرض عليها التوجّه نحو خطوات من النوع الذي يعيد الأمور الى نصابها لناحية القول للحكومة الحالية وللقوى الداعمة لها في الخارج إن سياسة التجاهل لن تفيد في شيء، وإن لعبة التهميش والمكابرة لن تحقّق استقراراً إضافياً لهذه السلطة، وإن الذهاب نحو التزامات سياسية واقتصادية لن يكون بالمقدور تنفيذه على الأرض. ولكي يكون الأمر على هذا النحو، كان لا بد لقوى المعارضة من أن تلجأ الى ما يسمى الآن التصعيد الحاسم، وهو التصعيد الذي يجعل كل لبنان في حالة غضب وتظاهر واعتصام، ولو تطلّب ذلك شلّ الدولة بأكملها بما فيها كل المؤسسات العاملة، وصولاً الى أن بين قوى المعارضة من يملك رأياً جدياً في أن الأمر قد لا يكون محصوراً في المؤسسات المدنية، بل لا بد من أن يشمل العصيان المؤسسات العسكرية، مع ميل واضح إلى أن يتركز ذلك على قوى الأمن الداخلي بعدما بات المعارضون على اقتناع بأنها صارت طرفاً في الصراع. وتضج صالونات قوى المعارضة بـ“خبريات” عن أنشطة تقوم بها قوى الأمن الداخلي تعكس انحيازها الكامل لمصلحة فريق السلطة، وكمية كبيرة من الأخبار الواردة من عناصر من قوى الأمن الداخلي نفسها تفيد عن أوامر وتصرفات يقوم بها زملاء لهم خفية عنهم، وأن هناك نوعاً من الفرز غير المسبوق لناحية إبعاد كل عنصر محسوب سياسياً على طرف غير فريق السلطة عن دوائر القرار أو عن دوائر المعلومات ولو كان شرطي سير، وأن عمليات التسليح القائمة داخل هذه المؤسسة تأخذ في الاعتبار أموراً لا تبدو متصلة بدور قوى الأمن الداخلي التقليدي، وأن بطاقات وأوامر تسهيل مهمة توزّع بالمئات على عناصر حزبية تتبع لقوى السلطة، ويجري تبرير ذلك بأنها أوراق مهمة لعناصر تعمل مع فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي. وتتحدّث المعلومات عن انتشار أكثر من 2500 عنصر من هذه القوى في خدمة شخصيات سياسية وأمنية وإعلامية تابعة لقوى السلطة تحت عنوان الحماية الشخصية بسبب تعرّض هذا الفريق للتهديد بالقتل من جانب الأعداء في لبنان والخارج. ثم تتحدّث المعلومات عن التقارير الأمنية الكثيرة الخاصّة بالتحقيقات التي تُجرى والتي تتركز على كل خصوم السلطة، سواء من القوى السياسية المناهضة أو من شخصيات ومؤسسات يعدّها فريق السلطة موالية لسوريا. وكل ذلك يدفع بقوى بارزة في المعارضة الى القول إن التعامل السمح مع الجيش اللبناني ينطلق حتى إشعار آخر من ثقة عفوية فائقة بهذه المؤسسة لدى الجمهور المعارض أكثر مما هو موجود لدى جمهور الموالاة، عدا عن أن فريق السلطة السياسي لطالما منع الجيش من أي دور أمني بحجة أنه غير مسيطر عليه تماماً، مع العلم بأن ثمة تعيينات فرضت على القيادة العسكرية وجرى تعيين ضباط من فريق السلطة بغية تحقيق “تغيير في التوازن السياسي” كما يبرر فريق السلطة، علماً بأن الشكوك في قوى الأمن الداخلي تزداد يوماً بعد يوم، وثمة مشكلة كبيرة قابلة للتفاعل، ما يجعل الناس أكثر حذراً، وهو ما يدفع قوى المعارضة إلى النظر بعين الريبة الى هذه المؤسسة، ويضطرّها بين الحين والآخر الى تحذيرها من مغبة الانحياز السياسي لهذا الطرف أو ذاك، وصولاً الى البحث في الدعوة الى مقاطعتها وشلّ قدرتها على العمل إذا تطلّب الأمر ذلك.
الأمر الآخر يتصل ببرنامج التحرك الشعبي المقرر الثلاثاء، الذي يشتمل على الإضراب العام وعلى تظاهرات حاشدة في المناطق وعند المواقع الرسمية والخاصة الأساسية وقطع الطرقات الدولية والداخلية والمفارق والزواريب المؤدية الى مؤسسات الدولة أو الى مؤسسات خاصة، والقيام بأنشطة تجعل لبنان في حالة غضب عارم، وسط حشد مئات الألوف من اللبنانيين في كل المناطق دون أي استثناء. ومع أن فريق السلطة يركز الآن على منع التحرك في بيروت وصيدا وطرابلس، إلا أن الفريق الأمني ــــــ السياسي يعمل بقوة لإفشال التحرك في المناطق المسيحية وجعله منحصراً في المناطق ذات النفوذ الأكبر لحزب الله وحركة أمل. وهو الأمر الذي تطلّب تعبئة من النوع التحريضي ضد العماد ميشال عون وسليمان فرنجية وإيلي سكاف إضافة الى الآخرين من قوى سياسية ذات حضور تقليدي في الوسط المسيحي.
لكن الإشارة التي أطلقها فرنجية أمس عن حق هذا الفريق أو ذاك في عدم المشاركة في التحرك مع حق المعارضة اعتبار هذا التصرف سياسياً بامتياز يفتح الباب أمام أمور مستجدة على الواقع السياسي والاجتماعي وحتى الاقتصادي في لبنان، وثمة نقاش جدي بشأن إمكان حصول مقاطعة شعبية واسعة لعدد غير قليل من المؤسسات الاقتصادية والتجارية التي سوف تنحاز الى جانب فريق السلطة، وسوف يجري التركيز لاحقاً على القطاع المصرفي وبعض المؤسسات المالية الكبيرة. وهو أمر يفتح الباب على إيراد أسماء عشرة مصارف كبيرة سوف تتعرض لحملة إعلامية وسياسية من جانب المعارضة بغية إفراغها قدر الإمكان من المودعين ومقاطعتها جماعياً بقصد معاقبتها على تورطها السياسي خلافاً للأعراف. وهي حال مؤسسات أخرى بما في ذلك مؤسسات إعلامية، الأمر الذي قد يتطور الى عصيان من نوع مختلف عن الذي قد تصل اليه المعارضة إذا لم يفهم أهل السلطة رسالة الثلاثاء الصاخبة.