رشا أبو زكي
«لا تطلقوا رصاصة الرحمة على القطاع الصناعي»... عبارة نطق بها وزير الصناعة الشهيد بيار الجميل قبل إطلاق الرصاص على جسده. فمن المسؤول عن الجريمة الأولى في غياب تحديد المسؤولية عن الجريمة الثانية؟

«تصوير الاقتصاد اللبناني على أنّه مرتكز تماماً على الليبرالية الاقتصادية يصطدم بواقع لا يعبّر عن معطيات الأسواق، وخصوصاً في تسعير مدخّلات الإنتاج وسياسة فتح الأسواق، ما يتطلّب إجراءات لتصويب الخلل القائم لما للصناعة من دور أساسي في كل اقتصاد وفي توفير فرص العمل. إن إيماني المطلق بلبنان، واعتقادي الراسخ بأنّ شباب لبنان هم ركيزة المستقبل، وأن الصناعة اللبنانية هي ضمانة أكيدة لتوفير نهضة مستدامة وفرص العمل لبقاء شباب لبنان على أرض لبنان جعلني أضع هذا البرنامج (صناعة لشباب لبنان 2010)». هذا الموقف للوزير الجميل كان مدخلاً لبرنامجه الصناعي الذي وضعه عام 2005 بالتعاون مع جمعية الصناعيين اللبنانيين وعدد من الهيئات الاقتصادية، والذي أطلقه في معهد البحوث الصناعية برعاية الرئيس فؤاد السنيورة. وقد تمّت الموافقة على هذا البرنامج في مجلس الوزراء. وفي أول جلسة للمجلس بعد اغتيال الجميّل، قطعت الحكومة عهداً بتنفيذ بنوده. لكنّ الوعد بقي على الورق. وجاءت ورقة باريس 3 خالية من أي إشارة للبرنامج، ومغيّبة لمعظم بنود الخطة الإصلاحية للقطاع الصناعي.
المنطق الآخر يلغي الخطة
ترتكز خطة الجميّل الإنقاذية للقطاع الصناعي على ثلاث مراحل. الأولى: خطة طوارئ لإطلاق سراح الطاقات الموجودة وغير المستغلة. الثانية: تفعيل القطاعات القائمة عبر برنامج التنمية الصناعية. والثالثة: إطلاق صناعات الغد المبنية على الصناعات الجديدة. ودعا الجميّل الحكومة الى إقرار إجراءات المرحلة الأولى ضمن مهلة مئة يوم، على ان تقوم وزارة الصناعة مع جميع المعنيين بإقرار الخطة التنفيذية لتحقيق الأهداف المحددة في برنامج التنمية ضمن روزنامة زمنية وبتوزيع مسؤوليات واضحة للتنفيذ، وأن يتحقّق ذلك ضمن المهلة نفسها، يصار من بعدها الى إطلاق مرحلة صناعات الغد...
وكان الوزير الذي دخل الى الوزارة متحمساً للإصلاح، قد اعتبر ان هذا الإجراء في لبنان عملية سهلة. فإذا بالمئة يوم التي حددها لتنفيذ المرحلة الأولى من خطته تمتدّ حتى اغتياله. واذا به يقول قبيل الاغتيال «اصطدمت بتعقيدات الدولة والمكننة والمنطق الآخر في النظرة الى القطاعات الإنتاجية في لبنان، ولكن ذلك لم يؤثر في عزيمتي وأقول ان لدى الدولة حلّين إما تطوير الصناعة والاقتناع بأن هذا القطاع أساسي ورئيسي للنمو الاقتصادي وإما إقفال الدولة لوزارة الصناعة والإعلان ان هذا القطاع غير نافع، وللأسف ان جزءاً من التأخير جاء بسبب التأخيرات الإدارية حيث ان ما يتطلب تنفيذه 24 ساعة يمتد بفعل تركيبة الدولة الى شهر»... الجميل لم يكن يعلم ان التأخير سيتحول الى إلغاء ولم يعرف ان دمه لن يغيّر المنطق الآخر!
أبرز بنود الخطة الصناعية
تقضي خطة الطوارئ التي أعلنها الجميل بمعالجة أسعار الطاقة، وخفض أسعار الكهرباء للصناعيين ليلاً، وتوفير المحروقات للمؤسسات الصناعية بأسعار تشجيعية بالوسائل المناسبة، وإقرار الإجراءات الوقائية المنصوص عليها في منظمة التجارة العالمية، كفرض رسوم نوعية على بعض السلع حسب شروط محددة ولفترة محدودة. أضف الى ذلك تحفيز التصدير أو إعفاءه من ضريبة الدخل، وتوفير التمويل اللازم لإطلاق الحملة الترويجية «صنع في لبنان». ونصت الخطة على تسهيل التمويل الصناعي، وتوفير رأسمال تشغيلي بشروط تشجيعية، ودفع متوجبات الدولة المتأخرة لتحريك الاقتصاد.
أمّا المرحلة الثانية فتدعو إلى تفعيل القطاعات القائمة. واعتبر أنّ نجاح الخطة يعتمد على تفعيل القطاعات الصناعية ضمن برامج متخصصة لكل قطاع نظراً إلى خصوصية كل منها، وعلى ربطها بالطاقات اللبنانية المتوافرة لدى الشباب اللبناني والمغتربين والجامعات والمصارف وبيوت المال اللبنانية ووسائل الإعلام. إضافة الى تطبيق رسم نوعي لحماية الصناعات المهددة بالانهيار، واعتماد أصول تطبيقية لقانون الإغراق، وتسهيل دخول الإنتاج الوطني المنطقة الحرة في المطار.
وتهدف إجراءات توسيع الأسواق الى توفير حصة مقبولة للصناعة الوطنية من السوق المحلية عبر تطبيق رسم نوعي لحماية الصناعات المهددة بالانهيار. ومن حسنات هذا الرسم انه يحدّ من التلاعب بالفواتير، ويحدّ من ضرر البضائع الإغراقية، ويسمح باحتساب النسبة الضرورية للمحافظة على الإنتاج الوطني بدقة من دون زيادة الرسوم على البضائع المستوردة بشكل عام.
ودعت الخطة الى تصويب الرسوم الجمركية على السلع المنتجة محلياً، وتطبيق الأفضلية في المناقصات للإنتاج الوطني، والعمل على تثبيت الأفضلية المحددة بـ15 في المئة للصناعة الوطنية في قانون المحاسبة العامة، وفرض عدم استبعاد هذه الصناعة من المناقصات ومن المشتريات الحكومية التي تتم خارج المناقصات. واقترحت إصدار قانون في هذا الصدد لتأخذ الموازنة بالاعتبار إلزاماً الانتاج المحلي عند تحديد نفقات الوزارات والإدارات العامة، إضافة الى اعتماد أصول تطبيقية لقانون الإغراق، وتطبيق المواصفات القياسية الأوروبية المنسقة لدى الاستيراد، وتسهيل دخول الإنتاج الوطني المنطقة الحرة في المطار، واستحداث مناطق صناعية جديدة، وتشجيع إنشاء واحات صناعية مؤهلة في جميع المناطق اللبنانية. ومن بنود الخطة أيضاً إعفاء الآلات الصناعية والمواد الأولية من الرسوم، وإعفاء المستودع الصناعي من ضمان الضريبة على القيمة المضافة، وخفض تعرفة التيار الكهربائي للمؤسسات الصناعية الى معدل السعر الوسطي المطبق في البلاد التي تنافس صناعة لبنان.
أما المرحلة الثالثة فدعت الى تشجيع صناعات المستقبل، ووضع آلية لإطلاق الصناعات الجديدة بالتعاون مع كبار رجال الأعمال والاقتصاد والعلماء اللبنانيين في الخارج للإفادة من هذه الطاقات دعماً لشباب لبنان، وتشجيع الحاضنات الصناعية بالتعاون بين القطاع الخاص والمنظمات الدولية المعنية وتعميمها على كل المناطق اللبنانية، وخلق مراكز تكنولوجيا تربط بين الصناعة والجامعات والجامعات الأجنبية في قطاعات محددة.
البنود النقيضة في برنامج باريس 3
البرنامج الاقتصادي للبنان الذي سيعرض في مؤتمر باريس 3 غيّب الخطة الإصلاحية للقطاع الصناعي.
فالحكومة قررت أن توفر بعض المساعدات المالية المحدودة للقطاعات الإنتاجية، ومن بينها الصناعة، إضافة إلى الدعم عبر برامج قروض يبلغ مجموعها 950 مليون دولار أميركي، مع دعم للفوائد من جانب الحكومة. ويواكب هذه التسهيلات عدد من الحوافز الضريبية المؤقتة لتفعيل النشاط الاقتصادي وترويج الاستثمارات، إضافة إلى المساعدة على تفادي حالات الإفلاس الواسعة النطاق وخطر إغلاق المؤسسات وتشريد العاملين فيها. وفي المقابل، نرى أنّ خطة الجميل ترفض تدخّل الدولة في القطاع الصناعي عبر بوّابة المساعدات المالية، إذ تدعو الى تنمية هذا القطاع عبر اتباع بنود الخطة للحصول على صناعة قوية.
ويشير برنامج الحكومة الى أن لبنان لم يُفِد من كل طاقته الاقتصادية والإنمائية بسبب الضغوط والتجاذبات السياسية، والأوضاع الماكرو اقتصادية المعقدة، والتصلب الهيكلي في النظام الاقتصادي. وتقول ان لبنان قادر على إنجاز أداء اقتصادي أفضل ومستوى معيشة أعلى لمواطنيه نظراً إلى تمتعه برأسمال بشري مميز ويد عاملة ماهرة. ولكن لم يذكر البرنامج ما هي وسائل الإفادة من اليد العاملة هذه، وحصرها في بعض بنوده بعمليات الاستخصاص التي ستوفر فرص العمل.
وتشير الحكومة الى ان برنامج الإصلاح يهدف إلى رفع معدل النمو الحقيقي إلى ما بين أربعة وخمسة في المئة سنوياً على الأقل خلال السنوات الخمس المقبلة. وتعتبر أن المصدر الرئيس لهشاشة الوضع الاقتصادي في لبنان يرتبط بحجم الدين العام، وأنّ الوصول الى الاستقرار والنمو ينحصر بتقليص هذا الدين ووضعه على مسار تراجعي، إضافة الى جذب الاستثمارات وتحرير التجارة وصولاً الى الدخول الى منظمة التجارة العالمية... لكنّ الحكومة أغفلت تماماً دور القطاعات الإنتاجية، وخصوصاً الصناعة، في تحقيق هذا النموّ.
ويبقى السؤال عمّا سيجنيه لبنان من الدخول الى هذه المنظمة على الرغم من ضعف التنافسية لدى الإنتاج اللبناني المحلي، وذلك في ظل عدم تطبيق ما دعت إليه خطة وزير الصناعة من تطبيق لقانون مكافحة الإغراق وغيره من الاجراءات الحمائية.
ويشير البرنامج الاقتصادي إلى التكلفة العالية لمباشرة العمل من جانب المؤسسات في لبنان مقارنةً بالمستويات الإقليمية والدولية. ويلفت الى إجراءات تصحيحية تستهدف هذه التكلفة من خلال خطة عمل مبرمجة للسنوات الخمس المقبلة، من دون أن تتضمّن هذه الخطة ما أوردته خطة وزير الصناعة من خفض أكلاف الإنتاج الحقيقية.
وقد أعدّت الحكومة سلة حوافز ضريبية طورتها وزارة المال لدعم مؤسسات القطاع الخاص وخفض تكاليف وأعباء الحرب على مؤسسات القطاع، وإتاحة المجال للحصول على قروض جديدة متوسطة وطويلة الأجل بفوائد مخفّضة، والسماح بإعادة هيكلة القروض القائمة، بالإضافة إلى التشجيع على عقد اتفاقات خاصة تعقدها المصارف مباشرة مع زبائنها، وإجراءات تهدف إلى الترويج للصادرات اللبنانية والترويج للبنان كمركز إقليمي للأعمال. هذه البنود مقتطعة من خطة الجميل، وهي على الرغم من أهميتها، لا تؤدي دورها المطلوب خارج إطار الخطة الاصلاحية الشاملة للقطاع.



إضاءة


خطّة الجميّل الصناعية في مهبّ ليبرالية وزير الاقتصاد

تقول الأوساط الصناعية إن إهمال خطّة الوزير الشهيد بيار الجميل يهدف إلى تمرير خطة وزير الاقتصاد والتجارة سامي حداد، الذي لا يؤمن بأي جدوى للقطاعات الإنتاجية، وإن خطة وزير الاقتصاد لتحفيز القطاع الخاص اعتمدت كملحق لبرنامج الحكومة الاقتصادي. وتلفت الأوساط إلى أن حداد كان أبرز المعرقلين لتنفيذ خطة وزير الصناعة. وقد بدا ذلك واضحاً في مواقف عدة، إذ تم تغييب الوزير الشهيد عن مؤتمر ستوكهولم، وكذلك عن المجلس الاقتصادي الاجتماعي للدول العربية الذي عقد في بيروت. وكان آخر العنقود تغييب خطته عن مؤتمر باريس 3.
مصادر في وزارة الصناعة تشير إلى أن حداد غير مقتنع بالإجراءات الوقائية للقطاع الصناعي، على الرغم من إغراق السوق اللبنانية، وقد بدا ذلك واضحاً من خلال زيادة الاستيراد مقابل التصدير. كما تشير إلى أن الورقة التي أعدّت إلى مؤتمر ستوكهولم لم تتطرق إلى الموضوع الصناعي، وقد تم ربط المصانع التي تستهدفها المساعدة بالإنتاج الزراعي، وتحدثت الورقة عن مصانع لم تتضرر خلال الحرب.
وترى المصادر نفسها أن وزير الاقتصاد لا يأبه بالمناشدات الصناعية المتتالية، إذ إن مطالب مثل فرض تعرفة خاصة في مد المصانع بالكهرباء، ووجود فروق ضخمة بين لبنان وشركائه التجاريين في العالم العربي تصل أحياناً إلى عشرة أضعاف وخصوصاً في قطاعي الكهرباء والمحروقات، تذهب كلّها أدراج الرياح. وتساءلت المصادر عن السبب الذي يمنع حداد من المطالبة بحقوق لبنان التجارية، وخصوصاً مع انتهاك الدول العربية الاتفاقات المشتركة.
ورأت الأوساط أن برنامج الحكومة يتضمن بنوداً جيدة مثل برنامج القروض، لكن هذا البرنامج سابق على العدوان الإسرائيلي. وأكدت أن الدول المانحة لم تطلب من الحكومة استثناء الصناعة من المساعدات، إنما كان ذلك اجتهاداً خاصاً من وزيري الاقتصاد والمال.
الأوساط الصناعية تشير إلى سيطرة مدرسة فكرية معينة على الحكومة، وترى أن لبنان يستطيع التطور من دون الحاجة الى الصناعة. وتستغرب وجود ورقة إصلاحية ضخمة لا تذكر القطاع الصناعي إلا في إطار «الحسنة» عبر المساعدات. ولفتت الى أن خطط التنمية الصناعية واحدة في جميع الدول، إذ تبدأ بمناطق صناعية خاصة، وحوافز ضريبية للمؤسسات الصناعية التي توظف العمالة المحلية، إضافة الى إعفاء الصادرات من الضرائب وتسهيل عمليات الاستيراد والتصدير. وإن كان من الضروري فرض الضريبة على القيمة المضافة، فيجب اعتماد نسب متفاوتة بين المستورد والمنتج المحلي. وتؤكد الأوساط على امتهان وزير الاقتصاد سياسة تشريد الصناعة والقطاعات الإنتاجية الأخرى، إذ رفض العديد من الملفات التنموية، وكان أبرزها تلك المتعلقة بالإجراءات الوقائية.
كما علم أن عائلة الوزير الشهيد مستاءة من عدم اعتماد الحكومة خطة بيار الجميل. وتعتبر في جلساتها الخاصة أن تغييب هذه الخطة عن برنامج الحكومة الاقتصادي يطعن بوصية بيار الاقتصادية.