جوزف سماحة
«الغطرسة» قد تكون الصفة الأقرب إلى سياسة السلطة اللبنانية. «الغطرسة» التي تتعمّد الاستفزاز أو تقود إليه حتماً. «الغطرسة» الناجمة عن تصديق أهل الموالاة لخطابهم. ليست المشكلة معهم أنهم يعتمدون إعلاماً يصرّ على التقليل من شأن خصومهم، ربما تكون هذه عادة سيئة عند جميع المتعاطين بالسياسة. المشكلة الفعلية أنهم يعيدون تدوير كلامهم من أجل بناء السياسة عليه.
المعارضة اللبنانية في نظر «الآذاريين» ضئيلة أي انقلابية، وغير وطنية، والحشود التي تنجح في تأمينها هي من النوع الذي لا يسبّب رفّة جفن. المعارضة طارئة، عابرة، قابلة للإصابة بيأس مبكر. ولذلك غالباً ما ينزلق النقاش معها من الاختلاف على محاور سياسية إلى التشكيك في أهليتها لتكون خصماً. لا يعرف الموالون اللبنانيون أن ألف باء النجاح هي أن يضع السياسي نفسه، مرّة، في موقع الطرف الآخر ليتعرّف على دوافعه ولحسن إدارة الحوار معه أو... الصراع.
تصرّ السلطة على أن المصير الذي ترسمه كتلة شعبية لبنانية كبيرة هو الاستمرار في المنفى السياسي الممتد منذ عقد ونصف العقد. وقد ارتأت، أي السلطة، أن تضيف إلى هذه الكتلة كتلة أخرى واعدة إياها بالمآل نفسه، ومراهنة على أن «رفقة الطريق» ستخفّف من آثار العزلة!
يحصل ما يحصل في لبنان رداً على هذه «الغطرسة».
إلا أن ما يحصل لا سابقة له. أو، من باب الاحتياط، لا سوابق كثيرة له في العالم. إن الإضراب العام السياسي، والقابل للتحوّل إلى إضراب مفتوح، له، في العادة، هدف محدّد: إسقاط الحكم القائم وتغييره وتسلّم السلطة.
إلا أن إضراب اليوم «ماركة مسجّلة» باسم المعارضة اللبنانية، لأن هدفه المباشر هو المشاركة، من موقع الأقليّة، في الحكومة والضغط من أجل إقرار قانون انتخابي عادل يقود إلى انتخابات مبكرة.
يذكّر الإضراب العام بالبرامج التلفزيونية للصمّ. الإشارات باليدين ضرورية لأن الكلام لا يصل. كانت التظاهرات، ومعها الاعتصام، نطقاً ضاع هدفه، لذا كان لا بد من الإضراب العام. ومع ذلك فإن الشك وارد في أن ترى عينا الحكومة ما رفضت أُذناها أن تسمعه.
لا مجازفة في القول إن إضراب اليوم سيشلّ البلد. سيحصل ذلك لأن هناك من هو متجاوب ولأن هناك من هو مضطرّ إلى «الإضراب القسري» بفعل تقطيع الأوصال، وإقفال الطرق، والرغبة في تجنّب أي إشكال.
ومن المقدّر أن يطرح التحرك أسئلة بالغة الحراجة.
أولاً ـــ أيّ دور للجيش والقوى الأمنية؟ كيفية الجمع بين حق التظاهر والتطبيع وحق التوجّه إلى العمل؟ الحكمة المطلوبة، في هذا المجال، لإيجاد نقطة التوازن المطلوبة كبيرة وسيكون ممكناً إجراء تقويم لاحق.
ثانياً ـــ هل القدرة متوافرة على ضبط الوضع في مناطق ذات حساسية عالية؟ ثمّة مدن وضواحٍ وأحياء وبلدات تعيش انقسامات زادتها الأزمة الأخيرة احتداماً. ويمكن استعراض هذه المناطق ومتابعة تلبيتها للنداءات المتعارضة والطريقة التي ستنظّم فيها التعايش على صراعاتها.
ثالثاً ـــ من الواضح أن هناك من سيقدم على قراءة لخريطة التحركات بصفتها خارطة «عسكرية»: مناطق «ساقطة»، مناطق متداخلة، خطوط التماس الجديدة، إلخ... وليس من المستبعد أن تلجأ قوى هامشية تعتبر نفسها محميّة إلى نوع من الاستفزازات لن يحدّ منها إلا الخوف من إنجاح الإضراب وإفشال باريس ـــ3.
رابعاً ـــ لن ينتهي اليوم إلا وقد ازداد الشرخ الوطني وتعمّق وامتدّ إلى قطاعات جديدة بينها الهيئات الاقتصادية والاجتماعية والأهلية.
ثمن كبير يدفعه لبنان مقابل «الغطرسة». ثمن كان يمكن تجنّبه لو لم يلتق هذا القدر الكبير من الخفّة مع هذا القدر الكبير من الضغط الدولي.