نادر فوز
عند السابعة والنصف صباحاً، كانت مستديرة الصّياد المحطة الأولى لتجمّع أنصار التيار الوطني الحر الذين قطعوا كل أوصال المنطقة. يقع إشكال أوّل بين «العونيين» وشبّان آخرين حاولوا «الانتفاض» لمتابعة سبيلهم «إلى العمل». يتدخل عناصر الجيش، يُفضّ الإشكال وتقطع الطريق من جديد.
جولة معرقلة تبدأ من كنيسة مار مخايل، فطريق صيدا القديمة ــ عين الرمانة، وصولاً إلى الطيونة، قصقص وجادة بشارة الخوري. سواتر ترابية عملت على هندستها جرّافات تابعة لحزب الله، فيما اكتفى عناصر الجيش بالنظر إلى أعمال البناء الجارية لقطع الطرقات «والإخلال بالأمن والنظام». الساعة التاسعة والنصف، تنتهي الجولة الأولى فتبدأ مسيرة جديدة للعودة إلى «الصّياد»، حيث مكان الانطلاقة الجديدة. المرور بالأشرفية وسنّ الفيل والمكلّس وجسر الباشا، بدا هادئاً بعض الشيء، لكن الوصول إلى الحازمية رافقه رمي الحجارة والهراوات وتكسير الزجاج. إنها «انتفاضة» ثانية لشبان «يحاولون الوصول إلى أشغالهم». تطوّر الوضع وسط غياب عناصر الأمن، فتحوّلت طريق الحازمية الداخلية إلى ساحة شبيهة بساحات الانتفاضة الحقيقية في فلسطين المحتلّة. اشتّدت المواجهة بين «مجاهدي» المعارضة و«جيش الاحتلال الموالي». المكان الأقرب للاختباء من الزجاجات الفارغة كان مكتبةً وسط «حلبة» المعركة.
خمس موظفات سمعن نداء السنيورة، فقرّرن أن يكون أمس «يوم عمل طبيعي». جويس، سحر، باسكال، كارلا وأديل أصبن بالهلع؛ تغيّرت وتبدّلت الأدوار في ما بينهن، بين من تبكي وتهلع وبين من تحاول تهدئة الأوضاع واحتضان «الأزمة». الخطوة الأولى كانت عبر تسكير الباب الزجاجي للمكتبة التي يعملن فيها، تبعها إقفال بوابتها الحديدية. انعدمت الرؤية فأصبحت متابعة «الانتفاضة» في الخارج معتمدةً بشكل كلّي على حاسة السمع: صراخ وسباب، أصوات تحطيم الزجاج وفرقعة الحجارة على الرصيف المجاور. كل ذلك وسط غياب الجيش.
تحوّلت المكتبة بعدها إلى مركز اتصالات؛ حاولت أديل الاتصال بمركز بلدية الحازمية لعلّ حضور عناصرها يهدّئ الوضع خارجاً، أو على الأقل يساعدون في تكوين صورة واضحة لما يجري بين الطرفين. «لا أحد يجيب» تعلن أديل، فيما كانت اثنتان من الموظفات الخمس تبكيان، والأخريان تعملان على تهدئتهما.
هاجس اجتاح المكان، «ماذا لو تعرّضت سياراتنا للتحطيم؟»؛ يعود البكاء والقلق، وتبدأ عملية افتراض الاحتمالات الممكنة: حرقها، تحطيم زجاجها، الاستعانة بإطاراتها، سرقتها... إضافةً الى سيناريوهات أخرى.
تلاه هاجس آخر أعلنت عنه جويس: «ماذا لو دخلوا وقتلونا»؛ تشعل هذه العبارة البكاء من جديد.
طلقات نارية عديدة تزيد من الحالة المأسوية في الداخل، لحقتها صرخات متتالية «أطلق النار يا جبان»؛ معرفة ما يدور في المحيط أصبحت حاجة ضرورية، فتم الاتصال ببعض الجيران الذين فسّروا الوضع بدقة: «المجاهدين» يتمترسون في الجانب الأعلى من الطريق، بينما يحتلّ عناصر «جيش الاحتلال الموالي» الجانب الآخر. أما إطلاق النار فلم يحدد مصدره، علماً بأنّ القوى الأمنية كانت لا تزال غائبة.
أطلقت الدعوات على كل من «السيّد» و«الجنرال» و«السنيورة». «في شوكولا وعلكة، لا تخافوا في حال طال الوضع، المونة موجودة»، محاولة المزاح الهادفة الى تهدئة الوضع باءت بالفشل. رشق ناري يزيد من وقع الأزمة، وإلقاء نظرات من خلف البوابة الحديدية لم ينل موافقة «الأسيرات» الخمس، لكنه ساعد في تحديد الموقف رغم الخوف من الرصاصات الطائشة. حضر عناصر من الجيش، وبدا تدخلهم مشابهاً لتدخل القوات الدولية لبسط الأمن والهدنة.
لم يطل الأمر طويلاً، إلا أنّ التجمعات والصرخات تواصلت. فتح «الحاجز» الحديدي بات واجباً رغم الاعتراضات المتواصلة للأسيرات. أقفلت المكتبة، وخرج الجميع إلى «ضفة القصر الجمهوري الغربية»، والاطمئنان على سيارات «الأسيرات المحررات» كان أمراً بديهياً. انصرف الجميع بعدها إلى مكان أكثر أماناً، بينما ظلّت الحازمية ساحة قتال حقيقية.