جان عزيز
للمرة الثالثة يرتبط اسم «الحريري» بصراع عنفي دموي على الساحة المسيحية.
في الأساس يقول المطّلعون إن الإطلالات الحريرية الأولى على الشأن العام اللبناني، حاولت أن تلبس لبوس المقاربات الإيجابية، على طريقة «الاستيعاب والتطويع»، كما تصف المؤلفات الفرنسية العديدة نهج عمل «العائلة السعودية ـــ اللبنانية الأصل». فمع بداية اهتمام رفيق الحريري بالسياسة في لبنان مطلع الثمانينيات، قيل إن «عملية استلطاف» جرّبت تجاه بشير الجميل، إلا أنها لم تلبث أن ماتت في مهدها، بعدما نفّذ المسؤول القواتي الشهير، جو اده، قراراً بقلع أشجار النخيل التي زُرعت حول «مستوطنة» كفرفالوس في منطقة جزين، حفاظاً على الطابع اللبناني للمحلّة، ورفضاً لعملية «سعدنتها»، أو تحويلها على الطريقة السعودية.
المقاربة الإيجابية الثانية، أقلّه المعروف منها علناً وإعلامياً، كانت تلك الواقعة التي رواها الرئيس أمين الجميل، حول لقاء جمع الحريري وفؤاد السنيورة بأحد مستشاري رئيس الجمهورية السابق في مقهى بيروتي في منطقة فردان، والذي انتهى وفق أقوال الجميل إلى عرض من الحريري إليه، لتعيينه رئيساً للحكومة، في مقابل مبلغ كبير من الأموال، ذكر أنه 30 مليون دولار أميركي. مع العلم أن الحريري رد على الجميل عند إثارة هذه الواقعة قبل نحو 4 أعوام، بقوله إن العرض كان معكوساً، ولم يكن من جهته.
المهم أنه بعد هاتين المحاولتين الإقناعيتين، لم يغب اسم هذه العائلة عن الساحة المسيحية، ولا عن الساحة اللبنانية، لكنه حضر على الساحة الأولى مرتين بارزتين، في محطتين حاسمتين.
المرة الأولى كانت بدءاً من خريف العام 1985، يومها دخل رفيق الحريري وسيطاً أساسياً في عملية طبخ الاتفاق الثلاثي، بين وليد جنبلاط، نبيه بري وإيلي حبيقة، برعاية الصديق السوري الأول للحريري، عبد الحليم خدام. وهو الاتفاق الذي سجل للمرة الأولى وضع النظام السوري خطياً، لطموحاته وتطلعاته في لبنان. في 28 كانون الأول 1985 وقّع الاتفاق في دمشق، ليسقطه أمين الجميل وسمير جعجع في 15 كانون الثاني 1986، ولتأتي المفاجأة في اليوم التالي حرباً مفتوحة على المناطق المسيحية، بواجهات مسيحية، من أكثر من طيف ومنطقة. والحرب نفسها استمرت فعلياً حتى 27 أيلول 1986، تاريخ محاولة الاختراق الفاشلة في اتجاه المناطق المسيحية، والتي حُمّلت أيضاً عناوين وآرمات مسيحية.
يومها ردد أكثر من مسؤول مسيحي وقواتي تحديداً، أن «الوسطاء» أنفسهم الذين كانوا عرّابي الاتفاق الثلاثي كانوا المسؤولين عن تمويل تلك الحروب المسيحية ـــ المسيحية، على طريقة «متعهدي الباطن» الرائجة سعودياً.
المرة الثانية لم تتأخر كثيراً. بعد ثلاثة أعوام، شغر موقع الرئاسة الأولى، دخل لبنان فضاء الفراغ الدستوري وانعدام الوزن السياسي الداخلي، فتحركت الطائرات الحريرية الخاصة نفسها، بين العواصم نفسها، من جدة ودمشق إلى برن وباريس، فطبخ اتفاق الطائف. وللمرة الثانية على التوالي كان الدم المسيحي هو عملة التداول والبيع والشراء. عام 86 دفع المسيحيون ثمن إجماعهم على رفض الاتفاق الثلاثي، فيما دفعوا عام 89 ثمن انقسامهم حيال اتفاق الطائف، وفي المرتين قيل وتردد وكتب إن «كونتوار» القبض والقطف كان هو نفسه.
أكثر من 16 عاماً مرت على تلك المناسبتين الداميتين في الوجدان المسيحي. اعتقد البعض خلال هذه الفترة أن أصحاب الجراح تعلّموا واتّعظوا واعتبروا، وأن «سمسار الدم المسيحي» من الجهة الأخرى قد ارتوى أو شبع أو قنع، خصوصاً بعدما تحولت نار القتل وباءً معدياً، لم يسلم منه الذين تعاملوا معه بالواسطة. غير أن 23 كانون الثاني 2007 شكل المحطة الثالثة في السياق نفسه، والمناسبة المستعادة للسيناريو نفسه: صراع حول حكومة حريرية بوجه فؤاد السنيورة، وسجال حول نظام لبناني ـــ إقليمي متكامل، جوهره «السنية السياسية» بوجه سعد الدين الحريري في بيروت، تحوّلا مرة جديدة حرباً على الأرض المسيحية، وبدماء المسيحيين وحدهم تقريباً.
المراقبون لاحظوا أنه مرة جديدة نجح النهج المقاول عبر «تعهد الباطن»، غاب الحريري الابن عن السمع والكلام والهواء، وحضر «متعهّدوه» بأدوات العنف الأسود كله. كان الهدف من الإضراب المعارض توجيه رسالتين: واحدة إلى خارج باريس ومؤتمريها باستحالة استناد الدعم الدولي للبنان إلى رجل واحدة من «السيبة» الميثاقية، وثانية إلى داخل السرايا وقريطم، باستحالة اختزال الوطن ببضعة مئات الأمتار المربعة من محميات السلطة. فجأة تحوّل الهدف حرباً مسيحية ـــ مسيحية للسيطرة على «معبر» هنا ولون زجاجة مياه هناك.
أبشع الصور المسيحية استُحضرت فوراً وغبّ الطلب، للدفاع عن العائلة المالكة والحاكمة: قناصة على مستديرة الصياد، خط دفاع أول عن سوليدير، وجحافل عند نهر الكلب، حفاظاً على إبقاء طريق فقرا سالكة ربما. للمرة الثالثة ينجح «التعهد الباطن» في إراقة الدم المسيحي، وللمرة الثالثة تكتسب مقولة كلاوشفيتز «إن المال عصب الحرب» معنى جديداً مبتكراً وأكثر مكيافيللية.
مساء الثلاثاء الطويل، كان سيد بكركي يحكي بمرارة وأسى وغضب مكتوم: «نقلوا المشكلة إلى عندنا»، ردّدها أمام زائر ليلي، وبانت في عينيه هوية الفاعل في «النقلوا»، ولم ينسَ «متعهدي الباطن»، فتابع سائلاً عن الذين عرقلوا «ميثاق الشرف» ورفضوا التوقيع عليه، قبل أن يأتي توقيع الدم على مواثيق بعيدة عنه...