إبراهيم الأمين
يبدو أن قدر الفتنة أقوى من الرغبة في الاستقرار. والانقسام السياسي الذي تعمق طوال عام ونصف، غدا انقساماً حاداً على المستوى الطائفي والمذهبي في ظل استمرار فريق السلطة بالحديث عن أنها تتعرض لحملة من قبل أقلية لبنانية تتبع للنظام السوري ـ الايراني. وفي ظل لجوء هذه القوى بصورة لا سابق لها الى عملية تعبئة ذات بعد طائفي ومذهبي تتركز على الإيقاع بين السنة والشيعة، باعتبار أن وقوع كارثة من هذا النوع يوفر أمرين: جر حزب الله باعتباره القوة الشيعية الابرز الى مواجهة مع تيار “المستقبل” باعتباره القوة السنية الابرز، وهو الأمر الذي يجعل الموقف العربي الرسمي والشعبي يرتبط بالبعد المذهبي للمواجهة، وبالتالي يجعل الموقف من الصراع في لبنان شبيهاً بالموقف من الذي يجري في العراق بمعزل عن الاختلافات الكبيرة بين الوضعين. ووجدت الولايات المتحدة ومعها فرنسا في لبنان من هو مستعد لهذه المهمة، وكان أبرز المتحمسين وليد جنبلاط وسمير جعجع وقيادات من تيار “المستقبل” حيث يعتقد هؤلاء ان هذه الطريقة هي الوحيدة التي تمنع تغييراً سياسياً شاملاً في لبنان وتبقي الانقسامات على خلفية طائفية ومذهبية حيث يريد جنبلاط استعادة الزعامة الكاملة والمطلقة على دروز لبنان وتحصيل ما يطابق حصيلته من الدماء والمال في زمن الحروب الاهلية، وحيث يعتقد سمير جعجع أن الشارع المسيحي سوف يتجه صوبه باعتباره صاحب الخبرة في حماية أمنه الذاتي، وان تحالفهما مع تيار “المستقبل” من شأنه توفير قاعدة للحكم لا بد وأن تجد شريكاً شيعياً مع الوقت، وهم في هذه الحالة عملوا ولا يزالون يعملون من اجل ان يكون الرئيس نبيه بري حليفهم.
قاسية هي الصورة لكنها واضحة، ومشروع التعبئة هو الذي يمكن ملاحظته في كل الخطاب الذي دأب عليه جنبلاط وجعجع ورجالهما المنتشرون على جميع الشاشات من دون كلل. واللغة التي قبل بها “المستقبل” وعمّمها على وسائل إعلامه المحكومة اصلاً والمدارة من قبل فريق جنبلاط السياسي والاعلامي، بعدما انضمت إليها “المؤسسة اللبنانية للإرسال” اثر نجاح جعجع في السيطرة على ادارتها السياسية ان لم يفلح في الامساك بقرارها الاداري والمالي. وجرى ضم كل ما يلزم من اصوات دينية واجتماعية في حملة قامت تحت عنوان “الحقيقة والمحكمة الدولية” وتركيز على اعتبار كل من يعارض فريق السلطة عدواً للبنان وجب اعدام حضوره.
ومنذ انطلاق المعارضة في تحركها السياسي الاخير، اظهر فريق السلطة عجزا عن فهم المتغيرات السياسية داخل لبنان وخارجه، وتصرف على اساس ان ما تمكن منه في الفترة السابقة لهو امر حقيقي ودائم، وانه تعبير حقيقي عن الواقع السياسي في البلاد، وانه يمكن ادارة لبنان من خلال ادارة يمسك بها مروان حمداة ووليد عيدو وجو سركيس. وان بمقدور فريق 14 شباط الامساك بكل مفاصل البلاد ورسم كل سياساتها وفق تفاهمات مع الدولة الاقوى في العالم اميركا، وانه يمكن تنصيب الرئيس الفرنسي جاك شيراك رئيساً للبنان، في استعادة لصورة حافظ الأسد الذي كان رئيساً للبنان ــــــ سوريا. وصار الفريق الحاكم يتصرف على اساس ان ما معه من مسيحيين يشكلون القاعدة الكفيلة لمعالجة مشكلة التمثيل المسيحي في الحكم بعد إبعاد استمر طوال سنوات الحكم الموالي لسوريا، والذي كان جنبلاط والحريري احد اعمدته. واعتبر هذا الفريق ان المقاومة يجب ان تظل خارج اطار اللعبة وعليها الخروج من ساحة المواجهة في الجنوب والذهاب الى البيت ولا دور لها في الداخل. وصار هؤلاء يعتقدون كما يفعل جنبلاط بأن هناك قدرة لمجموعاته السياسية وغير السياسية على إطاحة الرئيس اميل لحود ونزع سلاح المقاومة وإسقاط النظام في سوريا وفي إيران... لوهلة طالت ظن وليد جنبلاط انه يحكم العالم وأنه هو من يدير البيت الابيض والاليزيه وبيوت الحكم في الخليج العريي. وهو يتكل ضمناً على امور عدة في مقدمها انه يمثل القيادة الفعلية لتيار “المستقبل” في لبنان في ظل الفراغ الذي نشأ بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وان بمقدوره القيام بأمور كثيرة ليس اقلها وضع استراتيجيات تحتاج الى حلفاء، وهو وجد من هؤلاء الكثر في لبنان وخارجه. وهو يواصل عمله في هذا الاطار، مستخدماً كل ما يتاح له من وسائل، ويساعده في هذه اللعبة الجهنمية عدوه في حروب الثمانينيات القاسية وحليفه اليوم سمير جعجع الذي استعجل بناء قواعد مسلحة له في اكثر من منطقة، وهو الذي يواصل تحريضه بغية جر الشارع المسيحي الى مستوى جديد من التوتر الذي يوفر له ما يعتقد أنه مصلحة في الامساك بالشارع مجدداً، مذكراً الناس بعبارته الشهيرة” الأمر لي” التي استوجب تحقيقها قتل الآلاف من المسيحيين في الشمال والاقضية المسيحية من جبل لبنان اضافة الى بيروت.
بعد الذي حصل امس في شوارع بيروت، ليس هناك من هو سعيد الآن كوليد جنبلاط وسمير جعجع والآخرين من الذين يديرونهما ويموّلونهما، حيث يفترض هؤلاء ان الامور تتعقد يوماً بعد يوم. وهو المسلسل الذي قد لا ينتهي مع الاجراءات التي حصلت امس، والتي تظل رهن اي اتفاق سياسي لا تبدو له أي ملامح في الافق. بل يبدو ان الحاجة الاميركية والفرنسية وحاجة القوى الميليشياوية التي تسعى لاستعادة مجدها كبيرة وملحة، وخصوصاً بعد إضراب واحتجاج الثلاثاء الذي دل على ما ليس في حسبان هؤلاء، وبدا أن تروي المعارضة خلال الفترة التي مرت منذ بدء التحرك في الاول من كانون الاول الماضي واحتواء مناخ التوتر الطائفي و المذهبي لم يرق هذه القوى التي تدفع الى تقديم العصبيات على اختلافها على كل شيء آخر، الامر الذي يقود حتماً الى مشاهد كالتي شاهدها اللبنانيون امس، والتي لا يملك في لبنان الآن من يقدر على الجزم بأنها غير قابلة للتكرار، وسط غموض كبير في مناخ الاتصالات السياسية العربية والدولية، التي ترتبط اكثر بما يعتقده فريق السلطة لعبة استثمار مؤتمر باريس ـــــ 3، حيث المشهد الاحتفالي الذي لاقى ممثل هذا الفريق الرئيس فؤاد السنيورة الذي احتاج اتصاله بالرئيس نبيه بري امس الى دماء طلاب وشباب برصاص ميليشيات حلفائه المنتفضين على سلطة القانون التي لم يتوقف يوماً فريق السلطة عن النطق باسمها.