جوزف سماحة
تقول المظاهر إن ما حصل يوم الثلاثاء الفائت (واستمرار التوترات الأمنية الراهنة) يؤثر على مؤتمر باريس ــــــ3 لجهة تخفيف الاندفاعة العربية والدولية لدعم لبنان. هذا صحيح لو كان المؤتمر هو، فعلاً، لدعم لبنان. ولكن إذا افترضنا أن الخطوة التي رعاها الرئيس الفرنسي جاك شيراك مخصصة لدعم حكومة لبنان فالاستنتاج المنطقي هو أن وقائع الأيام الأخيرة ستعزز اندفاعة البعض، عربياً ودولياً، لزيادة الدعم.
لنقرأ ما نقلته الزميلة «الحياة» أمس عن مسؤول في الإدارة الأميركية. قال «لا خوف على الحكومة اللبنانية من السقوط لأن الدعم الدولي والإقليمي تضاعف في وقوفه وراءها ووراء رئيسها فؤاد السنيورة، وخصوصاً بعد الأعمال التخريبية والانقلابية الموجهة ضدها». هذه هي الحقيقة. هذه هي المفارقة: كلما كانت الحكومة اللبنانية فئوية أكثر كان الدعم أكبر!
درجت العادة على أن تكون المساعدات الاقتصادية مشروطة بإصلاحات هيكلية يقدم عليها البلد المعني. لم يشذّ لبنان عن هذه القاعدة. وليس سراً أن المستعدّين لدعم لبنان، حالياً، يدركون تماماً أن أزمة المؤسسات التي يعيشها لا تسمح له، في المدى المنظور، بملاقاتهم والقيام بما عليه من أجل التجاوب مع طلباتهم. الحكومة اللبنانية جاهزة طبعاً. لا بل تريد الذهاب في «إعادة الهيكلة» النيو ـــــ ليبرالية إلى أكثر مما هو مطلوب منها. إلا أن الجهوزية لا تعني القدرة. ويعني ذلك، اقتصادياً، أننا أمام سابقة دعم غير مشروط بمقابل «إصلاحي» قابل للتنفيذ. إنه دعم سياسي من الدرجة الأولى. وهو، أيضاً، دعم غير مشروط لأن الشرط متوافر تماماً: إنه الحكومة نفسها!
يجهد الرئيس السنيورة نفسه وهو يحاول إقناعنا بأن باريس ــــــ3 هو لكل لبنان ولكل اللبنانيين، وأنه سيسفر عن هبات خيرية بريئة من أي دنس. هذه الأطروحة، ببساطة، إهانة لذكاء مواطنيه ومحاولة عبثية للإقناع بأن «جداراً برلينياً» يفصل السياسة عن الاقتصاد، وبأن باريس، لا جنيف، هي مقرّ الصليب الأحمر الدولي. المساعدات الأميركية لمصر ذات صلة مباشرة بتوجهات ما بعد المعاهدة مع إسرائيل. وارتفاع باكستان الى المرتبة الثالثة في تلقي المساعدات من واشنطن شديد الارتباط بـ«الحرب على الإرهاب».
أما قطع المساعدات عن جهات فلسطينية ومنحها إلى أخرى فيحصل على إيقاع المواقف السياسية حصراً مع تغطية، من وقت لآخر، بضرورات «الحاكمية الجيدة». وحتى في العراق تقيم خطة جورج بوش الجديدة ربطاً محكماً بين ما يعطى وما يؤخذ. واللافت أن تقرير بيكر ـــــ هاملتون لا يشذّ عن ذلك.
إن غاية مؤتمر باريس ـــــ3، في ذهن أبرز حاضريه، هي رعاية الانقسام اللبناني. ليس ذلك غريباً. فالولايات المتحدة وفرنسا دشّنتا هذا الانقسام بالقرار 1559 وهما معنيتان باحتضانه وبتغليب طرف على طرف فيه. ويعزّز ذلك أن باريس وواشنطن وجدتا في لبنان نقطة التقاء عزيزة عليهما. ثم إن جاك شيراك، لحظة غروب عهده، يريد إبقاء بصمته على شيء ما، مدركاً أن لبنان حاضر، نسبياً، في الوجدان الفرنسي وأن «فضيحة إعلامية مدوّية» جعلت الإعلام «الحر» في ذلك البلد يتحدث بلغة واحدة عن الأزمة اللبنانية. أما جورج بوش فهو يرى الى بلدنا كأنه الإنجاز (الوحيد؟) لإدارته، واصلاً الى حد اعتبار أننا لم نكن نعرف شيئاً عن الديموقراطية والتعددية قبل أن يقرر زرعهما لدينا!
ذهبت الحكومة اللبنانية إلى باريس ـــــ3 مستقوية بأن إضراباً حصل ضدها. وذهبت، ثانياً، مستقوية بأنها تملك المخزون الشعبي الذي يتصدى، باسم «ثقافة الحياة»، لهذه المحاولة الانقلابية. ويفترض بنا أن نرى في هذا التصدي الأهلي رغبة في تعديل موازين القوى الداخلية ولكن، أيضاً، وسيلة لتقديم أوراق الاعتماد إلى الأوصياء الأجانب.
فالتصدّي المشار إليه يريد الإيحاء لبعض المانحين، أو للواعدين بالمنح، أن هناك في لبنان من هو مستعدّ للذهاب حتى النهاية، متحمّلاً مسؤوليته في المعركة الواحدة، وسامحاً لبوش، في خطابه عن «حال الاتحاد»، بتكرار الكلام على «المعركة الأيديولوجية الحاسمة في هذا العصر». التصدي للإضراب رسالة: «بوش لست وحدك. وإذا كنت خسرت الأكثرية في الكونغرس، فإن الأكثرية النيابية في لبنان تقف الى صفك وبجانبك وتعرض عليك صيغة من الاعتماد المتبادل».
إن لم نضع ما تقدّم في الاعتبار فلن نعود قادرين على فهم «التصدي السياسي والإعلامي» الذاهب إلى أقصى الابتذال والمصرّ على تركيز هجومه على «حزب الله». ويذكّرنا هذا التصدي، الذي يفوق قدرة الوضع الداخلي اللبناني وحده على الاحتمال، يذكّرنا بالفشل المريع الذي لاقته حملات العلاقات العامة الأميركية رغم مئات ملايين الدولارات التي أنفقت عليها.
إذا كانت دول مانحة تعرض دعماً أو وعداً بالدعم مدركةً أن «البرنامج الإصلاحي» مؤجّل فإن ما تحصل عليه، في المقابل، هو برنامج توتير داخلي قابل، إعلامياً، للتصدير من أجل محاصرة الآثار العربية والإسلامية لما حصل في «حرب تموز». إنه برنامج يستحقّ حفنة من الدولارات، لا بل حفنة من ملايين الدولارات.