أنسي الحاج
للفتنة نوافذ كثيرة تدخل منها. عليها فقط أن تختار: شيعة ــ سنّة. تيّار ــ قوات. قومي ــ كتائب. إلى آخره. القول إنها خط أحمر هو من قاموس التمنّيات.
مشاهد 23 و25 كانون الثاني 2007 وارثة وفيّة لمشاهد نيسان 1975 وما بعده. كنا نقول: لم نتعلّم شيئاً. أحرى أن نقول: تعلّمنا لنغوص أكثر. على المؤمنين أن يطلبوا من مراجعهم السماوية إنزال أشدّ العقوبة بالذات. بالآخر الذي هو الذات. بالذات التي هي الآخر. بالآخر المكروه. بالذات المكروهة أكثر.
فتوى بتحريم الفتنة. ولكنْ من يُقنع القنّاص؟ هل ينحني القنّاص للفتوى؟ ومن هو القنّاص؟ استمرت حروب 1975 وما بعدها دهوراً ولم تُكشف هويّة قنّاص واحد. القناص متعهّد إشعال الفتنة. شَبَح الأبراج بلا مشاعر. شبح تُحرّكه أوامر أشباح.
منع التجوّل. جيّد. وعند التجوّل؟
تستـــــــــــــــطيع قــــــــــول أي شـــــــيء وسط هذا الرعب. تستطيع أن تتظاهر بالابتعاد، لكنْ إلى أين؟ حَدّثني أحدهم عن متــــــــــــــنسّك كولومبي في أعالي لبنان. لحية بيضاء وعزلة تامة. ماذا جاء يفعل هنا؟ جاء نكاية بنا نحن اللبنانيين العاجزين عن اقتطاع مساحة صومعة نهرب فيها.
الوحيد المرتاح في لبنان كولومبي.

لا يُحسد «المستقلون» على وضعهم. مع 14 آذار دعماً لشعار حرية سيادة استقلال وضد 14 آذار المسكونة بالتسلّط وفكرة العزْل. ضد 8 آذار المشتبه في تغطيتها للخطط والأحلام السورية ومع 8 آذار المطالِبة بالمشاركة في الحكم. اللائحة تطول. نيّال المنحاز.
فضلاً عن أن المستقل مُسْتَثقل عند الفريقين، وربما عند الجميع بمن فيهم المستقلون أمثاله. كاتب هذه السطور يعتبر نفسه من المستقلّين. ويعتقد ضمناً أن استقلاليته المزعومة تقع في منزلة بين التهرّب والضياع. بين الكسل والانتهازية. نيّال النشيط والمهتدي. في هذه الظروف الملتهبة ليس هناك أرذل من الحائرين أمثالنا. وأمثال الألوف من الفاهمين الجبناء والغشيمين الأصلاء. 8 آذار أم 14 آذار؟ كنا نتمسخر على السوريين وتواريخ انقلاباتهم وحركاتهم التصحيحية. صاروا وراءنا. قد يعودون أمامنا.
حتى الآن نجحوا في الدخول ونجحوا في الخروج. لا لزوم أن يعودوا جسدياً حتى يعودوا أمامنا. الأمام ليس دائماً قدّامنا بل قد يكون فوقنا. وقد يكون وراءنا.
14 أم 8؟ 22. لو وُجد رجل يجمع الرقمين. كانت معجزة أن يتصالح جنبلاط وجعجع. حكمة وطنية أن يتفق عون و«حزب الله». هل المسافة بين 8 و14 أكبر من المسافة التي كانت تفصل بين عون و«حزب الله» وجنبلاط وجعجع؟ لماذا تنجح الأولى ولا تنجح الثانية؟ لأن من يُفترض فيهم الجَمْع نزلوا تحت الأحداث. ونكررها مع الأسف: لم يعد للبنانيين أب.

هذه المرّة، إذا لم نتداركها، ستكون حرباً أهلية بلا أقنعة. ما كنا خائفين أن يحصل بدأ يحصل. يراد له ذلك؟ الجهات نفسها التي كانت تريد لا تزال تريد؟ لا ينفع التحليل ولا تطمين ذوي الإرادات الطيّبة بل المطلوب انتزاع الفتيل. ما دمنا لم نتّعظ من تجارب ثلث قرن فلن يبكينا أحد. وسواء عاد الســــــوريون أو القوات الأطلسية أو المتعددة الجنسية فلن يكون هناك آسفون غير الذين ليس لديهم المال الكافي للهجرة.
ويجب أن يفهم الزعماء والحكّام أية نفسيّة تسود المجتمع. المستقلون الذين نضحك عليهم ليسوا أقليّة بل أكثرية. إن روحهم موجودة حتى بين المنتمين إلى هذا الفريق وذاك. وراء قشرة الانتماء قاع من التيه. وراء الأناشيد صقيع الهلع. وراء الحماسة خوف اليوم الأسود والغد الأشد اسوداداً.
الناس ضائعون ولكنْ ليس بينهم فاترون. أو هو فتور كاذب يخفي القهر. يخفي انتماءات مُجْهَضة. يخفي اختناقات مصيريّة فرديّة ووطنيّة. هنا رفض للدمويّة ورفض لتحوّل لبنان إلى مزرعة للبطالة. هنا توق إلى زعيم يوقف استعمال الدول لنا وكأننا مطايا ويوقف هرولة السياسيين إلى السفارات وأصحاب رؤوس الأموال. عند الفريقين المتقاتلين مؤهّلون ولأكثر من هذه المهمات الجسام. ويستطيعون القيام بها فرادى إن لم يشاؤوا جماعات. ألا تكون المعجزة أكبر لو اجتازوا المسافة بينهم لإنقاذ لبنان؟
لا أصدّق أن حلماً كهذا سيتحقّق. وإذا تحقّق سأصدّق. وسيكون أجمل من تحقّق حلم كنا نعرف ونصدّق أنه سيتحقق.
«كن قريباً في كتابتك»، قالت لي صديقة يزعجها أحياناً، كما يزعج سواها، أن لا تفهم ما أقول.
هذا أقصى ما استطعت أن أقترب. شيء من حيويّة الحمّى لا يزال يمنح القدرة على الكلام، فيما شيء من صحوة الوعي يدفع نحو شلل الصمت. 14 أم 8؟ البقاء والحفاظ على السيادة والاستقلال والحرية، رغم غموض معانيها خصوصاً في أفواه خطبائها. البقاء في لبنان مع الإفادة الوطنية في كل الحقول من الطاقات الشيعية الصاعدة. البقاء مع فتح أبواب لأجيال الشباب. البقاء مع نزع فتائل القبليّة المستحدثة والطائفية العريقة والمذهبيّة الجدَّدة. البقاء مع تحويل الدهاء من السياسة إلى التجارة والقانون والطب والكتابة وفنون الاتصال. البقاء مع التغلّب على ما ليس كبيراً فينا. البقاء مع الإيمان بأن الأخلاق ليست نكتة بل قاعدة لا غنى عنها للعمل العام وبدونها، وفي بلد سريع التواطؤ مع نفسه في شؤون الفساد، ينهار كل شيء.
البقاء أحياء.
البقاء أحراراً. إنها اللازمة في الأغنية. إرادة وطنية حرة وإرادة وجدانية حرة. في الحياة العامة وفي الحياة الخاصة. بدون أي اجتزاء. هذا الوطن الصغير ليس دولة ولا حدوداً بل إجازة من القمع والخوف.
هكذا أراده روّاده وبُناتُه وشهداؤه. ويجب أن لا يغيب ذلك عن مهجوسي السيادة والاستقلال كما يجب أن لا يغيب عن مهجوسي الكرامة والعروبة.

يعتقد الغربيّون أنهم هم الذين اخترعوا فكرة الحرية. إذا كان ذلك صحيحاً، فاللبنانيون منذ فينيقيا اخترعوا ممارسة الحرية من دون أن يتبحَّروا في فكرتها. حتى بات الواحد منهم يكره أن يقلّده جاره في حريته. والحرية، كما يقول نقولا بردياييف، تُشْعَل في الظلام. وهل من ظلام أشدّ تلبّداً من هذا الذي يلفّ بلدنا وأمّتنا ومنطقتنا كلها؟
البقاء، طبعاً، البقاء أحياء.