فداء عيتاني
من يقرأ تاريخ منطقة الطريق الجديدة يعلم جيداً أنّ ثمّة ما تغيّر بحدّة. «جبل النار» أو «أبو شاكر»، قلب الطريق الجديدة التي انقلبت على نفسها أخيراً،لم يكن دائماً جبل النار الذي انفجر أوّل من أمس

بالدموع والعرق والدم عاشت الطريق الجديدة، بالحب وأغاني أم كلثوم وروائح الأطعمة الشعبية وأصوات الباعة والشبان تطوقت شوارعها. وبالآخرين، كل الآخرين ضجّت أزقّتها وتداخلت مناطقها: الفقراء الذين سكنوا في بيوت الصفيح الى غرب الكولا، والفلسطينيون في مخيم شاتيلا الذي تاخم شارع صبرا وامتزج اسمه باسم الشارع في المجزرة الشهيرة، والشيعة الذين تعهدوا بناء مباني المنطقة، كما يروي وزير سابق، كسليم الخليل الذي بنى 18 مبنى على الأقل في الطريق الجديدة، ونجيب زهر وغيرهما.
ثمة ما تغيّر في المنطقة الشعبية هذه: من «الصين الشعبية» كما تعرف منطقة صبرا التي تكثر فيها البسطات وترخص فيها الأسعار ولا تجد منتجاتها في مناطق أخرى، الى البربير حيث العمال السوريون والمحال المتواضعة وزحمة السير، الى مبنى منظمة التحرير في كورنيش المزرعة.
«لم أتمكن، خلال سنوات من الخطابة في مسجد الإمام علي، من الدخول الى قلوب الشبان في المنطقة»، يقول أحد علماء الدين الذي كان معتدلاً في خطابه انطلاقاً من قناعاته الصوفية، وهو جمع حوله العديد من كبار السن، إلا أن الشبان، كما يعتبر، شأن آخر «لا يبحثون إلا عن مصالح مباشرة». ويعلم الشيخ، كما يعلم غيره، أن وراء ذلك تاريخاً طويلاً يلقي بظلاله على جبل النار، المنطقة التي انفجرت أول من أمس، وقبله يوم 23 من كانون الثاني الحالي، بعنف طائفي لم يوقفه شيء.
ذاكرة الرمل
يحمل أسامة العارف، ابن المنطقة، قارئه في جولة تاريخية جغرافية عاطفية وسياسية في كتابه «ذاكرة الرمل». تأريخ دقيق للمنطقة وأحداثها الأساسية. الكتاب، وإن كان يشكّل سيرة ذاتية، يحمل بعنوانه وبتأريخه للمنطقة الكثير من المؤشرات التي قد تساهم في فهم هذه المنطقة. الطريق الجديدة تعيش اليوم عهد انهيار الذاكرة الرملية التي كوّنتها على مر عقود طويلة، منذ أن أعطاها الفرنسيون اسمها «الجديد» يوم شقّوا فيها طريقاً لتصل سجن الرمل بالوسط التجاري والمرفأ، فاكتسبت اسم «الطريق الجديدة».
عاشت المنطقة، كما كل أحياء العاصمة، هجوم المناطق والتجارات والحركة الاقتصادية الخدماتية، إلا أنّها لم تجد دوراً في الاقتصاد الحديث بعد الاستقلال. حافظت على حياة هجينة، ومقاهيها القديمة لا تزال تغص بشبان كان يفترض بهم الانتماء الى الجامعات لتحصيل علومهم، أو الغرق في دوامة العمل المنتج، إلا ان واقع الحياة الاقتصادية التي دهمت هذه المنطقة حوّل الشبان إلى شبه عاطلين عن العمل، وخصوصاً في السنوات العشر الأخيرة، وجعل من المقاهي مقار لتسريب الخدمات وتوزيعها بالقطارة على عائلات تحتاج الى دعم يومي لتستيقظ على يوم جديد لا يحمل لها أية آمال كبيرة.
ذاكرة الرمل التي تحملها اليوم هذه المنطقة نسيت ان التاريخ الذهبي للطريق الجديدة بدأ مع استقبال اللاجئين الفلسطينيين في مخيم شاتيلا، الذي يحمل اسم إحدى العائلات البيروتية الكبرى، وانه بعد استحداث المخيم عام 1948 تعاطف سكان هذه المنطقة مع اللاجئين، فقرائهم وأثريائهم، وأن الطريق الجديدة لم تشارك فقط في ثورة عام 1958، بل برزت خلال هذه المشاركة أسطورتها الحية، إبراهيم قليلات، ابن الحي والمنطقة الذي تحول من زعيم عصابة صغيرة محاربة الى زعيم بيروتي للميليشيا الأكبر في تاريخ بيروت، «المرابطون».
الحروب الأهلية
في اجتياح عام 1982، تعرّضت الطريق الجديدة التي احتضنت المقاومة الفلسطينية، وخصوصاً منطقة الفاكهاني، لتدمير منهجي، وبقيت تقاوم قصف الطائرات والمدفعية البحرية والأرضية الإسرائيلية. وحين انتهت المفاوضات الى إخراج منظمة التحرير، بكت الطريق الجديدة بالدموع والرصاص لخروج المقاومة التي تعتبر الطريق الجديدة أكثر من خَبِر خيرها وشرّها. يومها، أشعل «المرابطون» النار في الكثير من عتادهم ونسفوا مدافع دباباتهم من طراز تي ــ 34 السوفياتية، حتى لا تقع في أيدي الإسرائيليين الذين اجتاحوا المدينة وحصدوا من الطريق الجديدة عشرات مخازن الأسلحة. فحتّى لحظة اجتياح بيروت، كانت ميليشيا «المرابطون» تعدّ أكبر ميليشيا في الحركة الوطنية اللبنانية، وكانت تعتمد على مقاتلين من بيروت والقرى السنية والشيعية على حد سواء، إضافة إلى بعض الفلسطينيّين الذين فضّلوا القتال مع «المرابطون» على الالتحاق بصفوف أحد تنظيمات الثورة الفلسطينية.
العديد من العبوات الناسفة اجتاحت المنطقة. فالحرب الأهلية مرت من هنا بثقلها ورائحة دمها، لتنتفض الطريق الجديدة عام 1984، كما بقية المناطق في بيروت، وتسقط اتفاق 17 أيار.
عام 1986، تم تدمير ميليشيا «المرابطون» التي كانت تعتبر الميليشيا الأخيرة للسنّة، وصار إطلاق النكات عن كسر شوكة السنّة يُتداول بشكل يومي، وصار الحديث الأكثر ترداداً هو أنّ السنّة لا يقاتلون، وأهل المدن لا يشاركون في الدفاع عنها، فغرقت هذه المنطقة في النسيان والقهر الصامت المكبوت.
صمتت الطريق الجديدة عن اجتياحات واجتياحات. وتعرّضت لإذلال يومي. حوصر مخيم شاتيلا من قلب مناطقها، وبقيت الى حد بعيد وفية للثورة الفلسطينية. اعتُقل المئات من شبانها، ودخلوا سجون الميليشيات اللبنانية من حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي. والبعض يقسم انه شاهد من أصبح اليوم وزيراً يدخل الى مسجد عبد الناصر إبان قمع أحد تحرّكات «المرابطون». الاستخبارات السورية حاولت جاهدة السيطرة على المنطقة، بعدما تعاطفت الطريق الجديدة مع الشيوعيّين الذين دافعوا عن وجودهم في بيروت، في الوتوات والطريق الجديدة طبعاً. ثم غرقت المنطقة في أعمال تفجير محدودة وإطلاق نار على الجيش السوري، وبقي القهر هو الغالب على الجميع.
شيّعت الطريق الجديدة لاحقاً العديد من رموزها، أو من رموز لبنان، كالمفتي حسن خالد. وتمددت فيها في هذه الأثناء اتجاهات إسلامية متشددة، أو صوفية، وأخرى معتدلة. ولم يوجد تنظيم سياسي أو ديني في لبنان لم يدخل الى هذه المنطقة. وكان الحزب السوري القومي الاجتماعي آخر من افتتح مراكزه هناك عام 1989، وكذلك حزب الله استقر في هذه المنطقة.
لكنّ أحداً لم يلتفت إلى المنطقة، أو إلى أبنائها. لم ينظر أحد إلى واقع الفقر وسوء التعليم والتسرّب المدرسي والبطالة المقنّعة. ولم يمنع ذلك تعرّض المنطقة للمداهمة كلّما حصل سوء في لبنان. كان رفيق الحريري آخر من أدرك حساسية المنطقة وعرف كيف يخاطبها. حماسة كبيرة رافقت الحريرية، وظهرت في المقاهي التي انتعشت وصارت مقر خلايا العمل والتنسيق والتجنيد للحريرية. وعد الحريري أهل المنطقة بالخدمات، والتفت الى شؤون الناس. أصلح الطرق وأقام مستوصفات طبية والمدرسة المجاورة.
الحياة بعيدة بعيدة
لم تسلم الطريق الجديدة من مداهمات في قضية الضنية عام 2000، ولم تسلم من المداهمات والاعتقالات في قضية الخامس من شباط عام 2005. فهوجم العديد من المباني واعتُقل المئات من أبناء المنطقة. الأصوليون هنا هربوا من واقع الظلم الطائفي والديني الى العزلة، فأصبحوا لغزاً أمام الأجهزة الأمنية، وأضحوا متهماً محبباً لدى السياسيين. ولا يعينهم على ذلك إلا التدخّلات السياسية التي تعيد البعض وتترك الأكثرية للسجن والعودة الى التشدد أكثر فأكثر. من أحمد أبو عدس، صاحب التسجيل الشهير، الى عملية اغتيال الشيخ نزار الحلبي، مروراً بسلسلة طويلة من الأحداث والاعتقالات اليومية.
لم يجتح تيار المستقبل الطريق الجديدة، ولا سيطر عليها بالكامل، إلا انه استطاع قيادة المنطقة. فعل ذلك بإمكانات مالية محدودة وأقلّ مما يشاع، وبمجموعة من الخدمات، ومساعدة عمليات التطويع لأبناء المنطقة في قوى الأمن، إضافة الى توظيفات أخرى محدودة في أجهزة الأمن الخاصة، وكذلك بالاستفادة من واقع القهر الذي وجد مسلكاً للتعبير عن نفسه بالحقد «على قتلة رفيق الحريري»، مع تجهيل معلوم للفاعلين. وخلال الفترة الماضية، وبينما كان حزب الله يحلم بتحالف رباعي يقود البلاد كلها من أقصاها الى أقصاها في سياقات متوازنة، كانت هذه المنطقة تستعر حقداً على الآخرين الذين طالما ضحّت من أجلهم، ولم تحظ منهم إلا بالهوان.
وصلت المنطقة الى جدار مسدود. كانت مركزاً لبيروت في الماضي، وكانت تسير خلف جمال عبد الناصر وكمال جنبلاط. أمّا اليوم، فعُزلت من كل أطرافها. هي جزيرة من الفقر والتعب والكثافة السكانية والقتال اليومي للبقاء قريباً من بيروت، في مواجهة قوة الطرد الى المناطق الأبعد.
«الشبان اليوم يبحثون عن أسباب الحياة، أي شيء يمكّنهم من الحياة»، يقول خطيب مسجد الإمام علي السابق، وهو يعلم ان أهل المنطقة يمكنهم السير في طرق ملتوية ومتعرّجة، فقط للشعور بإمكان البقاء وبقليل من الكرامة في وطن لم يعطهم أية فرص أو خيارات. ومن يرفع أرقام الديون القديمة فلا يخيف بضخامتها هؤلاء القاطنين بين «الصين الشعبية» ومقبرة الشهداء والمحكمة الشرعية وزاروب التمليص والسبيل والمدينة الرياضية والملعب البلدي. فهؤلاء غارقون في ديون صغيرة، ولا مانع من الحروب الصغيرة التي تعيد إليهم القليل من الأمل، حتى لو لبس اليوم لباس المذهبية، وحتى لو علموا في قرارة نفوسهم أنها معركة انتحار مذهبي. فما مرّوا به لم يترك لهم الكثير من الخيارات.
ثمة أخطاء كثيرة حصلت هنا. لكنّ أحداً لم ينتبه، ولم يحاول أن يفهم.




إضاءة


المرحلة الذهبيّة للناصريّة واليسار

يخاف البعض اليوم من عودة ابراهيم قليلات. هذا الرجل يمكنه أن يوقظ الأحلام التي سيطرت على الشبان في أجيال سابقة. وفيما يتحمّس البعض لمجرّد سماع أخبار وشائعات عن العودة المرتقبة، تتراجع الآمال بعودة الرجل الذي بدأ يطعن في السن. فالرجل لا يعود من دون أن يتأكد أنّ ما حصل مع تنظيمه سابقاً لن يتكرّر، وأنّه لن تتم إعاقة تنظيمه بمداخلات محلية أو إقليمية كبرى.
يتحرّك شبّان «المرابطون» وكوادرها بين الناس بحرية تامة. أبناء المنطقة يحفظون لهم الكثير من الود، إلا أنهم لا يملكون قراراً واضحاً بالدخول في صراع تم تحويله إلى صراع مذهبي بالعنف والدم.
من ثورة عام 1958 إلى انتشار منظمة التحرير في الطريق الجديدة، كانت المرحلة الذهبية تمتد. الطريق الجديدة تشهد كل يوم ولادة حركة ناصرية جديدة، أو مهرجاناً للحزب الشيوعي الذي اتخذ مركزه الرئيس في بيروت في شارع عفيف الطيبي، أو لمنظمة العمل التي لم يبتعد مركزها الرئيس كثيراً عن منطقة الكولا، أو حتى اتحاد الطلبة وأحزاب إسلامية وتجمّعات شبابية أخرى، كاتحاد قوى الشعب العامل، التنظيم الناصري، مصر العروبة، قوات الناصر صلاح الدين، وغيرها. وحملت المنطقة شباناً متحمّسين الى مراكز القيادات التاريخية لبيروت، بينهم شبان شيعة تحولوا الى قادة ناصريين مشعلين حماسة الجمهور في المنطقة لأجل التظاهر دعماً لمصر عبد الناصر وتشديداً على ضرورة خوض الحرب ضد إسرائيل بعد هزيمة عام 1967.
وما لبثت المنطقة التي قد تكون الأفقر في بيروت «قجة» الأطفال، وتبرعت بما أمكن للشاب الناصري المتحمس والمتمرد نجاح واكيم، ووقف صائب سلام على الحياد تاركاً واكيم في آخر لحظة يربح مقعداً نيابياً عزيزاً بعد أن استشعر أن ثورة الشبان الناصريين لا بد أن تدخل إلى البرلمان، سواء وافق أم لم يوافق.
قبل ذلك، وقفت الطريق الجديدة مصدومة بوفاة عبد الناصر. سارت المواكب فيها وأطلقت النار في الهواء وأشعلت الإطارات. وقبلها أيضاً وأيضاً، سارت الطريق الجديدة بقدّها وقديدها وبكل أبنائها خلف كمال جنبلاط. تظاهرة عام 1969 الشهيرة اصطدمت بقوى الأمن الداخلي في منطقة البربير، وتعرضت لإطلاق النار وواجهت الرصاص بالصدور ولم تتراجع عن خياراتها. أيّ خيارات بقيت اليوم لهذه المنطقة؟