جان عزيز
في 30 كانون الثاني بدأت الإشكالات الطالبية في بيروت. في 26 شباط حصلت محاولة الاغتيال في صيدا. في 4 آذار انطلقت التظاهرات المؤيدة للجيش، رداً على داعمي سلاح المقاومة. في 9 نيسان عقد البطاركة والأساقفة اجتماعاً في بكركي لتدارس الوضع، وسط الحديث عن مؤتمر قمة عربية عاجلة ستعقد في السعودية... لم ينتظر المخاض، في 13 نيسان أقيم قداس افتتاح الكنيسة، ومرّت تلك البوسطة.
كان ذلك عام 1975. وفق احتساب المهل والمدد والفوارق الزمنية، لا يزال أمامنا شهران و22 يوماً لتغيير الإعادة الكارثية.
هذا لناحية الزمان وسير ثوانيه. أما لناحية المواقف، فالصورة كالآتي:
«لجنة متابعة» القوى والأحزاب الموالية لحكومة رشيد الصلح، تلقي بالمسؤولية على «الحزب» وسلاحه وميليشياته، والمقصود حزب الكتائب، الذي ينفّذ مخططاً إسرائيلياً. ياسر عرفات يؤيد مواقف الموالين للحكومة، داعياً السلطات المسؤولة إلى ضرب «عصابات الحزب (الكتائبي) الآثمة». الدول العربية والغربية تشدد على دعم استقلال لبنان وسيادته ووحدته وسلامة أراضيه. المفتي ينزل بكل ثقله ضد «الحزب» ومسلحيه ومؤامراته التي تستهدف «خلخلة التكتل الوطني». الهيئات الاقتصادية حذرت من الانعكاس الخطير لما يحدث على الاقتصاد اللبناني... وحده كمال جنبلاط تفرّد باللغة المزدوجة المتفلسفة: «هذا الشعور بالكراهية والحقد المشحون لا يليق بلبنان (...) لو حضر بيننا السيد المسيح اليوم لقال حقاً في وجه قسم كبير من المسيحيين الذين ضلّلتهم الكتائب: إن ملكوتي ليس من هذه الأرض (...) هل أبقت الكتائب شيئاً من مفهوم الاتحاد الوطني؟ يريدون أن يعملوا حكومة مقاطعة، لا حكومة اتحاد وطني».
كان ذلك عام 1975. وفق احتساب أمزجة الأحزاب والأشخاص، بمن فيهم مولودو الأرحام نفسها والأفكار ذاتها، لا يزال أمامنا أقل من ثلاثة أشهر، كي لا يكرر فؤاد السنيورة دور رشيد الصلح، ولا يكرر بعض السفراء دور أبو عمار، ولا يستبدل المسيحيون بالشيعة والكتائب بحزب الله والمخطط الإسرائيلي بالمحور السوري ـــ الإيراني، وكي لا يعيد بعض سكان القصور وسادة المقامات، أدواراً مكررة بحرفيتها، مع فارق 32 عاماً. علماً بأن تجربة «الحرب الأولى» أثبتت لا جدوى الخطابات التبريرية وأدبيات التسويغ اللاحقة. بدليل أنه بعد 20 عاماً اعترف محسن دلول، أحد موقّعي «بيان عزل الكتائب» في 1975، بخطأ اتهامهم حزب بيار الجميل بارتكاب أحداث ذلك النهار. وبعد ربع قرن على الحادثة رأى أمين الجميل صورة والده في حسن نصر الله، قبل أن يراها سمير جعجع هي نفسها في ابن كمال جنبلاط بالذات...
قد تكفي هذه السياقات للدلالة على عبثية الأفكار والحجج، وعلى أولوية الصراع على السلطة، وأحاديثه ربما. الصراع نفسه يتخذ اليوم صيغة مقولتين متقابلتين متناقضتين: أهل السلطة يجزمون بأن النظام السوري حسم قراره بتفجير كل ما يجب تفجيره، لمنع قيام المحكمة الدولية. وأهل المعارضة يجزمون بأن الأكثرية صممت نهائياً على تدمير كل ما يجدر تدميره، لاستدراج قوات دولية إلى الداخل اللبناني، تؤمّن للسلطة القائمة تأبيد وجودها، حيث لا تفي شرعية تمثيل الشعب بهذا الغرض.
أيّ من المقولتين هي الصواب؟ قد يتضح لجيل لبناني آت بعد ربع قرن في مضارب انتشاره الأخير، أن جمع المقولتين هو الحقيقة الكاملة. وقد يكتشف آخر الهاربين من «الحرب الثانية» ووطنها المتحوّل جحيماً، أن طي الكلام الموالي والمعارض، هو وحده ما يكمل حلقة الوقائع والحقائق، بعد فوات الأوان.
في ظل إرهاصات أبوكاليبسية كهذه، يصبح تسجيل المواقف، ولو للمبدأ والتاريخ، واجباً. وبعض هذا التسجيل الواجب مُلقى اليوم على عاتق بكركي. فبعد أكثر من أسبوعين على الانطلاقة المتعثّرة لآلية «ميثاق الشرف»، لم يصدر عن الصرح، ولا عن المولجين المهمة، أي توضيح أو تصريح حول ما آل إليه الملف. بعض العارفين يؤكد أن إبعاد المسألة عن الإعلام من باب السعي لإنجاحها، ومن باب التمسك بالتفاؤل، وعدم إعلان عكسه. غير أن التطورات المتسارعة، خصوصاً عقب الاجتماع الأخير للجنة الموسّعة المكلفة متابعة «الميثاق»، مساء أول من أمس، وخصوصاً تلك الحرب الإعلامية المندلعة، والمنذرة ببلبلة النفوس وتضييع الحقائق وتنسيب الوقائع الدامغة، كل ذلك يشير إلى أن ثمة واجباً منتظراً من الصرح، لجهة مصارحة اللبنانيين، والمسيحيين خصوصاً، بأن المسعى الذي قاده لتجنيب الناس الأسوأ، انتهى إلى أربع إجابات من أربعة مسؤولين موارنة:
الأول أبدى استعداده الفوري للتوقيع والالتزام «على العمياني»، كما نقل الأساقفة الثلاثة إلى الصرح. والثاني كرر الاستعداد والالتزام نفسيهما، مع اقتراحه إضافة تعهده الشخصي، إلزام كل المؤسسات والأطراف والحلفاء الذين يرتبط بهم، بمضمون الميثاق الذي يوقعه. والثالث طلب مهلة زمنية غير محددة، للبحث والتدقيق، لم تنته بعد. والرابع أشار إلى أن المسائل العالقة أكبر من قصة ميثاق يجنّب المسيحيين واللبنانيين الكوارث... ولم يعط جواباً.
كيف توزّعت هذه الردود الأربعة على كل من أسماء ميشال عون، سليمان فرنجية، سمير جعجع وأمين الجميل؟ مسألة قد يصير توضيحها وإعلانها واجبين على أهل الصرح والميثاق ولجنته، وسط التراشق الحاصل، ودرءاً للأخطر.
***
ملاحظة شخصية: الاتهام الذي سيق ضد هذه الصفحات، بالعمل لمصلحة الاستخبارات السورية، يشمل سهواً أو قصداً كاتب هذه السطور. بناءً عليه، فإن التحدي مطروح على المدعي، بأن يظهر ما لديه من وقائع أو وثائق، مقابل إظهار ما يقابلها، حول «تعاون» أقرب القريبين منه مع الجهاز الأمني السوري ـــ اللبناني طوال 11 عاماً، على قاعدة «تعرفون الحق، والحق يحرّركم...».