عرفات حجازي
بعدما أدّى فريق السلطة مهمته في تشويه صورة المقاومة بات أكثر استعداداً لاعطاء ما رفض إعطاءه في السابق لتسريع الحل

لا تزال القيادات السياسية عاكفة على قراءة أحداث اليومين الداميين والتدقيق في خطورة تداعياتهما وحجم الاحتقان السياسي والمذهبي الذي انفجر بقوة بفعل تراكم التعبئة السياسية والإعلامية، ما فتح باب الدخول نحو الفتنة مستحضراً فظائع الحرب الأهلية وجراحاتها في عقدي السبعينيات والثمانينيات. وإذ أجمعت القيادات السياسية والمراجع الروحية على اعتبار ما جرى من مواجهات ونار وركام ودم يعكس هشاشة الوضع وخطورته، فإنها نبّهت إلى أن الأزمة وُضعَتْ في مسار جديد وقد لامست نقطة الانفجار وأحدثت تبدّلاً في قواعد اللعبة، محذرة من بقاء الحالة في مستنقع المراوحة بكل ما تختزنه من عوامل التفجّر التي قد تدفع إلى جولات أكثر عنفاً ولا قدرة لأحد على ضبطها وإخضاعها للسيطرة.
ويقول مرجع نيابي كبير في وصفه لما جرى يوم الخميس الأسود إنه اختصر إلى حد بعيد كل ما شهده لبنان من مآسٍ وويلات طوال الحرب التي امتدّت خمسة عشر عاماً سواء لجهة إقامة الحواجز وقطع الطرقات وخطوط التماس بين الأحياء والشوارع، أو لجهة انتشار السلاح والمسلحين وعودة ظاهرة القناصين الذين أخذوا من أسطح البنايات مواقع لهم لاصطياد الأبرياء عمداً.
وإذ اعتبر المرجع أن ما جرى من غضب هستيري كان معدّاً سلفاً وأن هناك من عمل على تحضير المسرح وإيجاد المناخ المناسب للفتنة، رداً على نجاح الإضراب العام والمشاركة المناطقية الواسعة فيه، إذ إن قوى السلطة كانت تراهن على فشل الإضراب معتمدة على تدخل الجيش في منع قطع الطرقات والتصدي لعمليات إحراق الدواليب، لكن الجيش أسقط هذا الرهان فجاء تصرفه في منتهى الحكمة منطلقاً من الخط الذي اعتمده في معالجة مثل هذه الأوضاع موفّقاً بين التزام القرار الســـياسي ومصلحة البلد وأمن أبنائه من دون استثناء.
وفي قراءته للمقدمات التي أوصلت الوضع إلى ما هو عليه، يقول المرجع النيابي إن لبنان انتصر على إسرائيل وأفشل أهدافها وبقي هذا الانتصار مدوّياً ومنتزعاً إعجاب العالمين العربي والإسلامي، لكن بعد هذا التاريخ بدأت الهزيمة في الداخل، لافتاً إلى وجود مخطط حيكت خيوطه بدقة ويقضي بتشويه الانتصار ومحاولات استدراج المقاومة وسلاحها إلى الداخل، وهو بالنسبة للمقاومين وقادتهم من الخطوط الحمر، بل من المحرّمات التي لا تجوز مقاربتها.
وإذ بدا أن المقاومة متمسكة بهذا الخيار، عمد بعض أركان الفريق الأكثري إلى التشكيك بسلاح المقاومة منكراً عليها تضحياتها وانتصاراتها ومحمّلاً إياها النتائج الكارثية التي سببها العدوان الاسرائيلي والهدف من كل ذلك المس بهيبة المقاومة والنيل من هالتها، لافتاً في هذا السياق إلى أن الرئيس رفيق الحريري كان حريصاً حتى ساعة استشهاده على خيط يرفض قطعه مع المقاومة أياً كانت الظروف والاعتبارات. ويظهر من خلال هذا السياق، بعد طول ما حصل من تشويه لصورة المقاومة وهز صدقيتها، وبعد أن أدى بعض الأقطاب في الأكثرية دورهم، ربما بات هذا الفريق أكثر استعداداً كي يعطي ما كان يرفض إعطاءه سابقاً لإخراج الوضع من حالة الانسداد والمراوحة القاتلة.
وثمة تقديرات في أوساط دبلوماسية عربية أن احتمال التوصل إلى تسوية بشأن العقدتين اللتين أفشلتا مبادرة عمر موسى بات مرتفعاً وأن ثمة أفكاراً جديدة مطروحة للتشاور والمناقشة سواء مع أقطاب الأزمة في الداخل أو مع الدول المعنية بالملف اللبناني، وتتعلق تحديداً بنقاط الخلاف العالقة في مسألة المحكمة الدولية لجهة التوفيق بين الوصول إلى الحقيقة في قضية اغتيال الرئيس الحريري وضمان عدم تسييس التحقيق وإجراء تعديلات على بعض بنود النظام الداخلي للمحكمة التي تحمل شبهة الاستهداف لأطراف سياسية في الداخل اللبناني أو في المنطقة، وفي مسألة حكومة الوحدة الوطنية هناك تصور لحل إشكالية «الوزير الملك» وإعطاء المعارضة الثلث الضامن مقابل ضمانات للأكثرية بأن هذا الثلث لن يكون للتعطيل، بل لتفعيل العمل الحكومي وزيادة إنتاجيته ومضاعفة قدراته على التصدي للمشكلات وإيجاد الحلول لها.
وتقول المصادر الدبلوماسية العربية: صحيح أن المساعي السعودية - الإيرانية لم تصل إلى نتائج نهائية بعد، لكنها على الأقل أوجدت بيئة موضوعية ملائمة لتسويات وسط، انطلاقاً من اقتناع الجميع، دولاً معنية وأفرقاء داخليين، بأن تركيبة لبنان ومعادلاته الدقيقة وتوازناته الطائفية لا تسمح لأي فريق بتحقيق الغلبة والانتصار على الفريق الآخر.
وتوضح هذه المصادر ذات الصلة بالمشاورات الجارية أن عمرو موسى لن يعود إلى بيروت خلافاً لكل التوقعات والدعوات التي وجهت إليه لمعاودة تحركه، سواء من أطراف عربية أو من قيادات فريق الأكثرية، فالرجل ما زال يشترط لعودته إمكان توصل اللبنانيين إلى تفاهم على الأفكار التي تقدم بها لحل العقد، لكنها لفتت إلى أن نجاح المساعي الإيرانية - السعودية في تذليلها ستجعله يسرع في عودته كي يعمل على تظهير الحل برعاية عربية إقليمية دولية وتحت مظلة جامعة الدول العربية.