جوزف سماحة
اعتمدت السلطة اللبنانية حيال المعارضة نظرية زئيف جابوتنسكي عن «الجدار الفولاذي». تفيد النظرية التي صاغها زعيم الحركة التحريفية ضمن الصهيونية أن المطلوب هو الصمود والمعاندة إلى حين يشعر العرب ويدركون أن رؤوسهم تحطّمت عند صلابة «الجدار» فيميلون عند ذلك إلى سلام هو أقرب إلى الاستسلام.
إلا أن جابوتنسكي، على خلاف غيره، كان يعتقد أن العرب ساعون وراء مطلب محقّ وأنه يحترمهم بسبب ذلك، لكنه لا يستطيع أن يعرض عليهم شيئاً ما دام شعاره هو «فلسطين ضفتان، الغربية لنا والشرقية ـــ وتضم المملكة الأردنية ـــ لنا أيضاً». لذا، وعندما سئل عن شعوره حيال هؤلاء العرب الذين يريد الاستيلاء على أرضهم وتيئيسهم من استرجاعها، أجاب «شعوري نحوهم هو نوع من اللامبالاة المهذّبة»!
«الجدار الفولاذي» و«اللامبالاة المهذّبة» كانا شعار السلطة اللبنانية في التعامل مع معارضيها. قالت، منذ البداية، إنه لا يمكنها أن تلبّي لهم مطلباً وإن في وسعهم الاحتجاج ما استطاعوا ذلك فلن يجديهم الأمر نفعاً. أضافت أنهم إذا بقوا أشهراً في ساحات الاعتصام فستعاملهم بـ«لامبالاة مهذّبة» إلى أن يكتشفوا أن طريقتهم بلا أفق وأن أصواتهم لا تصل.
وهكذا شهدنا، على التوالي، التظاهرة الأكبر، والاعتصام الأطول، والإضراب الأشمل، ومع ذلك... خسرت الحكومة ميثاقيتها، أي دستوريتها، وبقيت. اتّضح لها عجزها عن تمرير خططها ومشاريعها وبقيت. واعتمدت، دفاعاً عن استمرارها، على خطاب يناقض الخطاب الجامع، وعلى قوى من خارج المؤسسات الرسمية، وعلى دعم من دول لم يعرف عنها أي حرص على لبنان.
إن من يتابع أطروحة جابوتنسكي في الممارسة يتبيّن له أن للصراع دينامية خاصة به. فعندما انكسرت الموجات العربية عند «الجدار الفولاذي» لم يقد ذلك إلى أي سلام. لقد قاد إلى التوسّع، وإلى طلب المزيد، وإلى المجاهرة بأن المطلوب ليس تسوية وإنما غلبة سافرة. لقد تبنّى اليسار الصهيوني مفاهيم اليمين الأقصى ثم تخلّى عنها، في حين أن هذا اليمين بات ينظر إلى نظرية «الجدار» بصفتها نظرية حمائمية لا تفي بالغرض.
وما نشهده في لبنان، هذه الأيام، هو استعداد الأطراف الداعمة للحكومة لاتّباع النهج نفسه. وتؤسس هذه الأطراف لخطواتها الجديدة على ما تعتبره انتصاراً حققته في الأسبوع الماضي وفي يومي الثلاثاء (التصدي للإضراب وتلقّي ثمن ذلك في باريس) والخميس (مواجهات بيروت التي انتهت، بشكل متواز، إلى طلب الانسحاب من الشارع وفرض حظر التجوّل).
ففي رأي النواة الصلبة للموالاة أن موجة الاحتجاج انكسرت وأنه عند إيقاف الجميع على حافة الهاوية فإن هناك من يتراجع. لذا، وبعد أن أدّى «الجدار الفولاذي» غرضه بات التقدّم هو المطلوب، وبعد «اللامبالاة المهذّبة» لا بد من تنظيم الهجوم على إيقاع تعبئة جرى توفير عناصرها في الأسابيع الماضية.
شعاران سيجري بواسطتهما السعي إلى الانتقال إلى مرحلة جديدة في الأزمة المفتوحة: إنهاء الاعتصام والدعوة إلى جلسة استثنائية لمجلس النواب.
كان إنهاء الاعتصام مطلباً منذ البداية. وجرى، في سبيل ذلك، استخدام الحجّة الاقتصادية. وجرى استخدام العصبية بالقدر الذي يسمح به الانطباع الخاطئ بأن الاعتصام يحاصر السرايا وليست السرايا هي التي تحاصر المعتصمين (ساهمت سلوكيات للمعارضة في توليد هذا الانطباع). لكن الجديد، هذه المرة، وفي ضوء تجربة الأسبوع الماضي، هو احتمال إدخال العنصر الأمني التوتيري كوسيلة معتمدة لتحقيق الهدف.
وفي موازاة ذلك سيصار إلى اختزال المعضلات السياسية كلها في جزئية تقول إن اجتماع المجلس النيابي هو المدخل إلى الحل إن لم يكن الحل كله. ويتساوى ذلك مع اختيار عنصر واحد من عناصر «السلّة المتكاملة» للحل التي اعتمدتها المبادرة العربية أو وردت في ثوابت المطارنة الموارنة.
نحن قادمون، إذاً، على محطة جديدة تستند إلى تقدير خاطئ لتحوّل طرأ على موازين القوى خلال الأسبوع الماضي. وسيحاط هذه المحطة بقصف كلامي من العيار الثقيل عن «الحوار» الذي لا تلوح أية تسوية في خاتمته.