strong>جاد نصر الله
لم يكن محمد قد سمع بعد بالأحداث الدامية التي دارت رحاها في منطقة الطريق الجديدة نهار الخميس الفائت حين كان متجهاً بسيارته إلى بيروت. «من وين الشاب؟»، سأله أحد عناصر الحواجز المدنية التي انتشرت على طول الطريق الساحلية إلى بيروت عصر ذاك اليوم. «من الجنوب»، قال محمد. وما كاد ينهي جوابه، حتى انهالت العصي والحجارة عليه وعلى سيارته محدثة ضرراً بالغاً. أكمل محمد طريقه، وبعد كيلومترات قليلة اجتازها على طول الطريق السريع اصطدم بحاجز آخر. أراد التوضيح هذه المرة لمن اعتقدهم عناصر من تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي عَلَّه يفلت من ضربات العصي والهراوات: «أنا سنّي من شبعا»، لكنّ إجابته لم تكن «صحيحة» هذه المرّة أيضاً. فنال نصيبه الكافي من اللكمات. رجّح أنّ الحاجز المدني تابع لعناصر «حركة امل».
لنادين قصة مشابهة، وإن اختلفت في تفاصيلها. فهي شابة متزوجة وأمّ لطفلين، تعمل في شركة استشارية للمستشفيات الناشئة حديثاً. «لو علمت مسبقاً بما يحصل، لأمضيت الليلة في الجنوب». لم تعرف نادين بحقيقة ما يجري، فما تسمعه من أخبار قليلة عبر راديو السيارة غير كاف لرسم المشهد على حقيقته. تشوقت لمعرفة تفاصيل الحدث ولم يخيّل لها أن العوارض الجانبية للمأساة التي تعيشها العاصمة ستطالها بعد لحظات.
وصلت إلى حاجز للجيش اللبناني، نصحها عناصره بالعودة من حيث أتت. لم تُعِر نادين كبير أهمية لمخاوف الجنود، وأكملت طريقها بُغية الوصول إلى أولادها قبل هبوط الليل. حين تقدمت بسيارتها إلى مفرق منطقة برجا في إقليم الخروب، اعترضها خمسة شبان «بأشكال مرعبة». تستغرب نادين حالة الهيجان التي أصابت أحدهم حين رأى الحجاب على رأسها. عندها فقط عذَرت مواطناً في سيارة قريبة، سمعته يطلب من زوجته خلع الحجاب على الفور كي يتمكنوا من العبور. بدأ الجميع بكيل الشتائم والسباب للسيد حسن نصر الله، فيما كانت السماء تمطر حجارة من حولها! حاولت تغيير وجهة سيرها، وحين التفّت بسيارتها المحطمة إلى الوراء اصطدمت بباص للركاب كان سائقه يحاول مثلها النجاة بحياته.
تستعيد نادين شريط الأحداث في رأسها ولا تجد تفسيراً لنجاتها من بين أيدي «قطاع الطرق». فحال الارتباك التي عاشتها كانت كافية لتنسيها كل ما تعلمته حديثاً من أصول القيادة. استحكمت بها حالة من الخوف والهلع: كم من حاجز مماثل ينتظرها على الطريق؟ هنأها العسكريون بالسلامة، خففوا من الرعب الذي سكنها، لكن ذلك لم يكن كافياً ليجيب عن تساؤلاتها: «ماذا كانوا ينتظرون ليوقفوهم عند حدهم، وخصوصاً أنهم يفوقون المشاغبين عدداً بكثير!».
قرب آليات الجيش العسكرية، احتمى عدد من موظفي شركة «سوكلين» الذين همّوا بالعودة إلى منازلهم وعدلوا عن فكرة الذهاب إلى مركز العمل في بيروت. أحد هؤلاء، تقدم من نادين عارضاً عليها أن تبيت الليلة مع عائلته في منزله، علَّ الأمور تهدأ قليلاً في اليوم التالي. وكان هذا الخيار الوحيد المتاح أمامها.