مهى زراقط
صفحــــات من دفتـــــر شـــــاميلا التي أصبحـــــت سـاميــــة في لبـــــنان

متى امتلأت صفحات الدفتر البيضاء؟ وماذا كتبت شاميلا عليها قبل هروبها مع الناطور المصري؟ هل سجّلت معاناتها في الغربة القسرية التي تعيشها؟ هل رسمت البيت الجديد الذي يبنيه أهلها على أنقاض ذلك الذي أخذه التسونامي في 26 ديسمبر، التاريخ الذي لا تنساه؟ أم تراها دوّنت أسرار البيت الذي تعمل فيه؟
أسئلة تطرح نفسها عليك ما أن تعثر بين أمتعة الخادمة السيريلانكية التي هربت، على الدفتر الصغير وتلتقط ورقة مطوية تسقط منهسامية. هذا اسمي الجديد بعد أن عجز أصحاب البيت عن نطق اسمي صحيحاً:
« مايلا؟ شاميا؟ شاميلا؟..
«خلص، لا تسألوها كثيراً» قالت المدام. واتخذت في زمن قياسي قراراً يسميني: سامية. وجدتني أتساءل: هل اختارت أمي اسمي بهذه السرعة، قبل خمسة وعشرين عاماً؟
رتبت السرير الذي سأنام عليه. وضعت صورتََك تحت الوسادة. لم أجرؤ على أن أقبلّك. صوت أمي لا يزال في أذني: «أزوّجك إياه بعد ثلاث سنوات. سافري وساعدينا في بناء البيت. لا يمكنني أن أشتري لك ماكينة خياطة جديدة إذا لم توافقي على السفر. شقيقتك سبقتك إلى السعودية وأنت ستذهبين إلى لبنان، بلد جميل».
لم أقبلك... صرت أخاف أن أفعل. عندما أعطيتني الصورة وقبلتها قبل النوم زارنا التسونامي. أعتقد أن الله عاقبني، لهذا قررت أن أطيع أمي وأنتظر ثلاث سنوات بعيداً عنك. لكنني مشتاقة إليك. لا أصدق أنك أحببت فتاة سوداء مثلي. أحبك كثيراً.

«امسحي الغبار جيداً عن المكتب قبل أن تضعي الكتب عليه».
قالت لي المدام ولم أفهم. كرّرت أكثر من مرة. صرخت: «المكتب. المكتب»... كيف لي أن أعرف أن هذه الطاولة اسمها مكتب؟ أليس المكتب هو المكان الذي قضيت فيه ليلتي الأولى؟
صرخ الرجل بنا أنا وثلاثة من مواطناتي لكي ننام قبل أن يخرج ويقفل الباب. نمنا على الأرض من دون غطاء. قال إنه لن يسلمنا لأصحاب البيوت قبل أن نجري فحوصات طبية. لم أحزن، منذ كنت طفلة لم أزر الطبيب. أمرض وأشفى من دون علاج.
مواطنتاي قالتا لي الشيء نفسه. سوما متزوجة ولها طفلان. زوجها لا يعمل وهو من أمّن لها عقداً للعمل في لبنان. قبل ذلك كانت تساعد الشرطة في القبض على المجرمين. قالت لنا إن الشرطة كانت ترسلها لإغراء المجرمين والإيقاع بهم. «لكن زوجي لم يعد يوافق على هذا العمل وقال لي إن قريبته بنت بيتاً من عملها في لبنان لذلك بحث لي عن فرصة مماثلة».
كانت سوما سعيدة، بعكس سوسيلا التي تتجاوز الأربعين. قالت إن السيدة التي جاءت لخدمتها أعادتها قبل أسبوعين وهي لا تزال تنتظر من يقبل بخادمة في سنّها تكون قادرة على القيام بكل أعباء المنزل. «ما ذنبي إن كان صاحب المكتب في سيريلانكا كذب عليهم وقال إن عمري 20؟».

البيت كبير. لا أستطيع تنظيفه في يوم واحد. سمحت لي المدام بتقسيم غرفه شرط أن أمسح الغبار يومياً. تكرر أوامرها بطريقة تثيرني. تريدني أن أنفذ ما تقوله في اللحظة التي تنهي فيها كلامها. وابنتها تتسلى في تعليمي العربية:
«هذا صحن. هذا فنجان. هذا شاي. هذه ركوة قهوة. هذه مكنسةأكرّر خلفها. تسألني مجدداً لتتأكد أني حفظتها. لا أنجح في الإعادة. تخرج من المطبخ بسرعة. أعتقد أنها تضايقت مني. أبقى واقفة. تعود ومعها دفتر صغير وقلم حبر أسود. ترسم الأشياء وتطلب مني أن أكتب اسمها. «هكذا تحفظينها أسرع» قالت لي. سأحاول أن أحفظ بسرعة. «صحن... فنجان...»
«هذه اسمها ممسحة. لا يجب أن تلمسي شيئاً آخر في البيت إلا بعد غسل يديك. فهمتِ؟».
أهز رأسي نحو الأسفل. تماماً كما تفعل المدام وهي تقول الكلمة الأخيرة: فهمتِ.

مرّ وقت طويل ولم أكتب. العمل كثير في هذا البيت. جيّد أن أبي لا ينوي أن يبني أكثر من ثلاث غرف. لكنني أتمنى لو نستطيع شراء أشياء مماثلة لأدوات المطبخ الموجودة هنا. هذا الغاز جميل. كذلك الطنجرة التي يقلون فيها البطاطا. وسأعلّم أمي كيف تطهو المعكرونة وترتبها عدة طبقات.
تفرح أمي عندما أخبرها ذلك. في كل مرة أتصل بها تشجعني على تعلّم الأشياء الجديدة. تقول إنه بإمكاني استثمارها عندما أعود. تريدني أن أفتح مطعماً لبنانياً في سيريلانكا. أخبرتها أني أحب الخياطة لكنها لا تعيرني اهتماماً.
وهي لا تحدثني عنك. هذه هي المرة الثالثة التي أسأل فيها عن أخبارك من دون الحصول على إجابة. قالت لي فكّري بعملك وأرسلي المال في الوقت المحدد. في الشهر المقبل سأتصل بكَ وليس بها.

اليوم قضيت النهار برفقة فتاة سيريلانكية مثلي. جاءت برفقة صديقة المدام. ذُهلت عندما وجدت لديّ أعداداً كثيرة من المجلات باللغة السيريلانكية. قالت إن المدام لا تسمح لها بأن تقرأ أي شيء أو حتى أن تشاهد الأفلام الهندية التي أشاهدها أنا.
لكني وجدتها أقدر مني على سرد فيلم من نوع آخر. قالت لي إنها تعرفت إلى ناطور سوداني... يحكي العربية لكنه أسود مثلها. هو يحبها، رسم لها قلوباً ملوّنة بالأحمر على ورقة وأهداها إياها. تخرج لرؤيته كل يوم مختلقة عشرات الحجج: مرة ترمي الخبز في سلة النفايات وتعرض على المدام أن تذهب لشرائه. ومرة ترمي القهوة ومرة تبادر إلى اقتراح ترويقة المناقيش...
خفت منها وشعرت بأن أمي ستغضب إذا عرفت أني تعرفت إلى فتاة مثلها. قلت لها إني منذ سألني ناطور البناية إن كنت متزوجة صرت أتجنّب الخروج من البيت. المدام جيدة، لم تجبرني على شيء وشعرت بأنها صارت تثق بي أكثر. على فكرة، هي تسألني عنك فقد أخبرتها أننا سنتزوج عندما أعود.
ليتني أعرف لماذا لم ترد على اتصالي الهاتفي؟

«ما في الله»
قلت للمدام اليوم وغضبت مني. لم أعرف كيف أصف لها مشاعري بعدما عرفت أنك تزوجت. قالت لي أمي أن لا أعاود الاتصال بك وأنه عليّ التفكير بمستقبلي وحدي. يعني أننا لن نذهب معاً إلى قطر. تعمل أنت ناطوراً وأساعد أنا السيدات في البناية ونعيش كما تعيش ابنة خالتي والأجرة هناك أكثر ارتفاعاً من هنا.
ماذا فعلت بنفسي؟ ما الذي أتى بي إلى هذا البلد حيث كنت مهدّدة بالموت خلال حرب كرّرت مشهد التسونامي أكثر من ثلاثين يوماً؟ في الوقت نفسه كنت أنت تتزوج فتاة بيضاء مثلك تعرفت إليها في حفلة في المدينة؟
ضمّتني ابنة المدام بعدما ضبطتني أبكي. قالت لي إني سألتقي يوماً من يحبني أكثر مما أحببتني أنت. هل أحلم بأن ألتقي شاباً كخطيبها الذي يحمل لها الورود كلما زارها؟

طلب المستر من الناطور أن يدخل قارورتي الغاز إلى المطبخ. كنت أجلي عندما لمحته يرمي ورقة بين قدميّ ويهرول. انحنيت لألمّها وأخفيها في جيب مريول العمل. عندما جلست وحدي وفتحتها وجدتها مزيّنة بعشرات القلوب والأسهم. شعرت بالنار تجتاحني. ارتبكت. بل احترت. هل أرمي الورقة أم أحتفظ بها؟
لم أسأل نفسي كثيراً. طويتها بين دفتي الدفتر وأسرعت إلى المطبخ أرمي ربطة الخبز في سلة النفايات...



بدأت القصّة عام 1978

وفقاً لدراسة أعدّها الباحث راي جريديني عام 2001، إن أول وكالة لاستخدام المهاجرين السريلانكيين في لبنان فتحت أبوابها في العام 1978. لكنّ غالبية الوافدين دخلوا لبنان ابتداء من العام 1993. ويتبيّن من عدد إجازات العمل التي مُنحت للعمّال الأجانب بين عامي 1993 و1999 أن عدد الخدم المنزليين الوافدين من سريلانكا والفيليبين هو الأكثر ارتفاعاً. وقد ارتفع عدد الداخلين إلى لبنان ارتفاعاً ملحوظاً في العام 1997، وفتحت سفارة سريلانكا أبوابها في شباط 1998 في بيروت. وتكشف بيانات لم تُنشر لمسح المعطيات الإحصائية للسكان والمساكن (1996)، أنه من أصل 11.358 عاملاً سريلانكياً شملتهم العينة، 95% منهم كانوا إناثاً و88% يعملون خدماً في المنازل. ووفقاً لسفارة سريلانكا، يُقدَّر عدد السريلانكيين في لبنان بحوالي 80.000 - 100.000 عامل.