نقولا ناصيف
خلافاً لما هو عليه الموقف من الدور التقليدي للسعودية في لبنان، فإن دخول إيران على الملف اللبناني يواجهه تقويم متعارض من طرفي النزاع. إذ فيما يرى فيه بعض المعارضة تصويباً لتوازن التدخل الإقليمي في لبنان، تتخوف قوى 14 آذار من أن يضاعف الدور الإيراني من وطأة الشرخ الداخلي والصراع الإقليمي على لبنان. مع معرفة طرفي النزاع على السواء أن لإيران، القديمة إبان حقبة الشاه والجديدة مع الثورة الإسلامية، تاريخاً طويلاً من التدخل والنفوذ في هذا البلد، وخصوصاً في الخمسينيات، عندما كانت استخباراتها نداً مباشراً لنظيراتها التركية والعراقية والسورية والأردنية والمصرية، اللاعبة كلها بلا رقيب في لبنان. فالعلاقة المميزة التي جمعت الرئيس كميل شمعون بالشاه محمد رضا بهلوي كادت تدخل لبنان عضواً في «حلف بغداد» عام 1955، وكانت الإمبراطورية، آنذاك، عضواً غير معلن في تحالف عسكري جمع تركيا والعراق وباكستان. وعلى مرّ الستينيات أيضاً وجدت الاستخبارات الإيرانية في لبنان مرتعاً سهلاً للتحرّك وإرساء علاقات واسعة النطاق مع سياسيين لبنانيين، وكذلك مع الاستخبارات اللبنانية التي اضطلعت حينذاك بأدوار عدة اتصلت بملاحقة معارضين للشاه. بعد الثورة الإسلامية، كان لبنان الدولة الأولى، الأصغر والأضعف، التي رغبت إيران في تصدير ثورتها إليها، شأن السلاح والمال أيضاً، بإرسال ألوف من «الحرس الثوري» وإقامة معسكرات تدريب في بعلبك لعناصر تنظيم أضحى في ما بعد حزب الله بزعامة الشيخ صبحي الطفيلي الذي يأخذ هذه الأيام على خلفه السيد حسن نصر الله تنفيذ السياسة الإيرانية في لبنان. كانت للمصالح الإيرانية مكانة خاصة في إدارة سوريا الوضع اللبناني لعقدين ونصف عقد من الزمن، إلى حدّ الاعتقاد بأن الفريق الشيعي في لبنان بات يمثل المعادلة المثلى لتلاقي النفوذين الإيراني والسوري في مواجهة إسرائيل والسياسة الأميركية في المنطقة. وساد يقين ولا يزال بأن حزب الله هو الواجهة العقائدية والدينية والسياسية والعسكرية لإيران في لبنان. لم تبخل عليه بالمال والسلاح، وأتاح لها في المقابل لأن تكون، حتى حرب تموز، وجهاً لوجه مع إسرائيل عند «الخط الأزرق».
مغزى ذلك كله طرح السؤال الآتي: هل بات دور إيران في لبنان شرطاً ملازماً لتسوية سياسية بين قوى 14 آذار والمعارضة؟
تعكس معلومات دبلوماسية متعددة المصدر في بيروت هذا الانطباع، في ضوء ما بلغ إلى أكثر من مسؤول رسمي وزعيم سياسي عن المسار الذي آلت إليه الاتصالات السعودية ـــــــ الإيرانية منذ اجتماع رئيس مجلس الأمن الوطني السعودي الأمير بندر بن سلطان بأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي أكبر لاريجاني في الرياض في 14 كانون الثاني الجاري. وكان، طبقاً للمعلومات نفسها، السانحة التي مهّدت لدخول دبلوماسي لإيران على ملف الخلاف الناشب بين الغالبية والمعارضة. في ذلك الاجتماع الذي تركز خصوصاً على العلاقات الثنائية والإقليمية، عبّرت السعودية عما اعتبرته هواجس من حملات تشييع تطلقها إيران في العالم العربي السني، قبل أن يبادر بندر بن سلطان إلى الاستفسار من نظيره عما يمكن أن يتعاونا من أجل إعادة الاستقرار إلى لبنان. وكانت تلك إشارة بندر إلى لاريجاني عن قلق الرياض من تصاعد وتيرة التشنج المذهبي السني ـــــــــ الشيعي في هذا البلد. ثم أطلعه على جهود الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى وتوصله إلى صيغة تسوية وجدت المملكة أنها مقبولة لإعادة بناء سلطة جديدة في لبنان بين طرفي النزاع. ورمى المسعى السعودي إلى حصر الاتفاق بطهران من دون إبداء أي اهتمام بدور سوريا، انطلاقاً من إصرار الرياض على إبقاء أبواب الاتصال والحوار موصدة في وجه الرئيس بشار الأسد. واستناداً إلى التقويم الذي تلحظه المعلومات الدبلوماسية، فإن الخلاف السعودي ــــــــ السوري بات يغلب عليه طابع شخصي في نظر الملك عبد الله الذي لم يغفر للأسد ما رآه إهانة شخصية له عندما تحدّث قبل أشهر عن «أنصاف الرجال».
واستكمالاً لوجهة نظره، اقترح بندر على لاريجاني تنشيط المبادرة العربية بدفعها إلى التنفيذ، وبأن يتولى كل منهما إزالة العقبات من طريقها: يضغط بندر على حلفائه في قوى 14 آذار، ولا سيما منهم الطرف السني، ولاريجاني على حلفاء إيران وتحديداً حزب الله وحركة أمل.
لم يقدّم المسؤول الإيراني جواباً شافياً قبل مراجعة حكومته، رداً على اقتراح بندر بأن يتوجها معاً إلى بيروت ويعملا على جمع طرفي النزاع لإقناعهما بالمضي في الحل. تسلّح بحاجته إلى مراجعة «أهل الحل والعقد» في الفريق الآخر في لبنان الذين هم سوريا وحزب الله وحركة أمل، مبدياً خشيته من فشل من شأنه أن يفاقم الصراع اللبناني ــ اللبناني. ولذا فضّل استمهاله بعض الوقت لجس النبض. ولكنه بدا قاطعاً في تأكيده لمحاوره أنه لن يبذل جهوداً في سبيل تسوية لا تلبي مطالب حلفائه.
في الحصيلة، خلص الموقف الإيراني، تبعاً للمعلومات الدبلوماسية نفسها، إلى الملاحظات الآتية:
1ـــــــ رغبة الرياض، من طرف واحد على الأقل، في إدخال إيران في الملف اللبناني نظراً إلى فاعلية نفوذها على فريق رئيسي في لبنان، الأمر الذي يبرّر الاعتراف بموقع إقليمي مؤثر للجمهورية في هذا الجانب من الشرق الأدنى المشتعل. ويشكّل في الوقت نفسه مبعث اطمئنان لسوريا.
2 ــــــ رغم اهتمامها ببذل جهود متوازية في ملفي العلاقات السعودية ـــــــ الإيرانية، والسعودية ـــــــ السورية، لمست طهران استمرار إقفال المملكة أبوابها في وجه دمشق، واعتقادها بإمكان إمرار حل لبناني ـــــــ لبناني بمعزل عنها، الأمر الذي تتحفظ عنه العاصمة الإيرانية.
3 ـــــــــ أفضت سلسلة اتصالات إيرانية ــ سورية (زيارة لاريجاني لدمشق، ووزير الخارجية السوري وليد المعلم وبندر لطهران) إلى التوصل إلى تأكيد الحاجة إلى تهدئة تتيح سحب مبررات التشنج المذهبي في لبنان، وفي المقابل إطلاق جهود موازية من داخل لبنان يتولاها السفير السعودي عبد العزيز الخوجة، والإيراني محمد رضا شيباني، لتحريك قنوات الحوار والتسوية التي كان وضعها موسى. وهو ما آل إليه نشاط متكرر للسفيرين: التقى خوجة علناً الرئيسين نبيه بري وفؤاد السنيورة، وشيباني سراً الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. ويبدو بحسب المعلومات إياها أن المبادئ الخمسة التي أضحت ظاهراً على الأقل موضع تفاهم سعودي ــ إيراني تتصل بإقرار المحكمة الدولية (بعد الأخذ في الاعتبار ملاحظات المعارضة عليها)، حكومة وحدة وطنية وفق معادلة موسى على أن تنطوي ضمناً على منح المعارضة الثلث المعطل (اختيار أحد خمسة أسماء ترشحها لمقعد الوزير الحادي عشر)، انتخابات رئاسة الجمهورية، قانون جديد للانتخاب، انتخابات نيابية مبكرة.
لكن جهات واسعة الاطلاع على التحرّك السعودي ــ الإيراني ترى أنه ليس ثمة ما يمكن جزمه بنجاح هذه الخطة بكونها صيغة نهائية ومتكاملة لم تطرح بعد على أي من طرفي النزاع كي يقبل بها أو يرفضها، الأمر الذي يحملها على ترقب نتائج هذه الجهود في الأيام العشرة المقبلة حتى يصحّ التحدث عندئذ عن بشائر أمل أو نذائر شؤم.