جوزف سماحة
مختار لماني. احفظوا هذا الاسم. يمثّل التماعة وعي في الليل الحالك للنظام العربي الرسمي. موظف كبير في جامعة الدول العربية ورئيس مكتبها في بغداد. رفض إدارة عمله من عمان. أمضى حوالى عشرة أشهر في العاصمة العراقية. وقرّر، أخيراً، الاستقالة. غير أنه أرادها استقالة مبرّرة. كتب رسالة شرح فيها الأسباب الداعية إلى الاستنكاف بعد طول معاناة. بدأ الرجل مهمته من دون أوهام، لكنه غادر بعد التجربة.
يشكو لماني، في استعراضه الأزمة العراقية، انتقال متطرفي الطوائف من الأطراف إلى المركز. ويستعرض تعقيد الجوار وتقاطع المصالح وتضاربها واستخدام العراق ميداناً للمعارك. ويبقى أن المهم في استقالته ـــ شهادته ـــ ملاحظته غياب أي رؤية عربية متماسكة وجادة في معالجة الموضوع العراقي. أكثر من ذلك يقول إنه عانى انعدام الوعي بضرورة هذه الرؤية بأبعادها السياسية والأمنية... والاكتفاء «لدى البعض أحياناً بالانجرار إلى مواقف ترقيعية ومن منطلقات ضيّقة لا تضع بالأساس ولا بالضرورة المصلحة العليا للشعب العراقي وإنهاء محنته». ساوره «شعور قوي بالإحباط والقهر أمام المعاناة» التي كان شاهداً عليها، وانتابته «أحاسيس متناقضة بين ما يمكن المرء أن يتمناه للعراق وما يراه فعلاً على أرض الواقع».
نطق لماني باسم المواطن العربي العادي في مواجهة سياسة الإمعان في التخلّي التي يمارسها النظام العربي الرسمي. وأورد عبارة يمكنها أن تكون خير وصف لهذه السياسة: «سهولة الإقرار وعدم التنفيذ». هذه ليست عبارة. إنها صفعة على وجوه الحكام العرب فرداً فرداً.
***

أشهر لماني يأسه بعد أسابيع من «وثيقة مكة» حيث التقى عراقيون من أجل «تحريم الدم العراقي». وصادف أن نشر الرسالة حصل يوم الإعلان عن «لقاء مكة» بين قادة حركتي فتح وحماس من أجل تحريم الدم الفلسطيني.
الدعوة إلى اللقاء وجّهها الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز. سبق له الإعلان أن الوضع العربي «غير مريح»، ناسباً ذلك إلى عدم «توحّد رأي الأمة» وإلى أنه يرى «شتاتاً في الرأي في فلسطين، وشتاتاً مدمّراً في الرأي في لبنان، وشتاتاً قاتلاً في الرأي في العراق». كاد يتحدث كمراقب إن لم يكن كمعارض، كأنه غير مسؤول، مع أقرانه، عن حال الأمة. غير أنه أعرب عن عدم فقدان الأمل وعن «أنه لا بد لهذه الأمة من أن تُبعث مرّة أخرى».
لنقرأ في نص الدعوة إلى «لقاء مكة». تتحدث الرسالة عن «فلسطين الأقصى وأرض الإسراء وأولى القبلتين، أرض ثالث مسجد تُشدّ إليه الرحال»، عن «فلسطين العروبة والتضحية، أرض الإباء والكرامة والعزّة». وتتحدث عن «الكفاح الفلسطيني الوطني المشرّف الذي قضى في ساحته النبيلة آلاف الشهداء». وتؤكد «أن دور المملكة تجاه القضية الفلسطينية ليس دوراً هامشياً... بل دور تاريخي وشراكة في المصير منذ تأسيس الدولة السعودية»، كما تؤكد أن المملكة «لا تقبل أن تقف صامتة متفرّجة لتنظر بحزن وألم عميقين لما يدور على الساحة الفلسطينية من اقتتال بين الأشقاء... من دون أن تتصدى لدورها الإسلامي والعروبي والأخلاقي».
الكلام كلام عاطفي. وهو يذكّر بأن المملكة قدمت دعماً مالياً وسياسياً للشعب الفلسطيني. إلا أن الكلام نفسه يبقي أي عربي على ظمأ. ثمة شعور طاغٍ بأنه أقل من اللازم وأنه متأخر بعض الشيء.
إن الاقتتال الفلسطيني الذي تشير إليه الرسالة وتدعو إلى لقاء لوقفه هو كارثة محقّقة. إلا أن المشكلة الأصلية هي الاحتلال المتمادي والمتوسّع الذي يصفه الملك بـ«الجحيم الغاشم». لذا فإن كل جهد لوقف الاحتراب مشكور، لكنه لا يلغي واجب السؤال عمّا بُذل لإنهاء الاحتلال. قامت المملكة، في المجال الأخير، بجهد إلا أنه دون قدراتها ودون المطلوب. والمثال الأبرز على ذلك هو مصير المبادرة السعودية التي تحوّلت، في قمة بيروت، إلى مبادرة عربية. لقد مضت سنوات من دون أن نشهد عملاً سعودياً أو عربياً جدياً، وملموساً، ودؤوباً، من أجل الضغط لتحويل هذا العرض التسووي إلى استراتيجية عملية تضع لنفسها هدفاً وتضغط من أجل الوصول إليه، وتعتبره معياراً للعلاقات الدولية.
معروف كيف رد آرييل شارون على المبادرة. ومعروف أن جورج بوش أقدم بعدها على المغامرة العراقية. ومعروف أن واشنطن مارست ضغوطاً على الرياض. ومعروف أن مشروع الاحتلال تعثّر. ومعروف أن الشرط الأميركي الحالي، من الوضع الداخلي إلى الوضع في العراق وأفغانستان، إلى الوضع في سعر النفط، يسمح بفرض تنازلات محدّدة على جورج بوش. ومع ذلك...
معروف أن هناك من حاصر عرفات حتى القتل، ومن استهتر بمحمود عباس، ومن شجّع على الانتخابات الفلسطينية، ومن رفض نتائجها وفرض حصاراً تجويعياً، ومن أمات خريطة الطريق، وشلّ عمل اللجنة الرباعية، ومن أرسل رسائل ضمانات تؤيد التوسّع الإسرائيلي وتلغي أي حق بالعودة، ومع ذلك...
ومعروف أن اجتماعاً عربياً في القاهرة أعلن وفاة عملية التسوية بأشكالها المعروفة. وقرّر التوجّه إلى مجلس الأمن، وفعل ذلك فعلاً من دون نتيجة. ومع ذلك...
ومعروف أن المملكة أعلنت ذات مرّة أن إقفال أفق التسوية يجعل الحرب بديلاً محتملاً. ومع ذلك...
تستطيع السعودية أن ترمي بثقلها في محاولة لمنع الاقتتال الفلسطيني وهذا جيد. لكن الاختبار الحقيقي هو في قدرتها على قيادة جهد جماعي جدي من أجل إنهاء الاحتلال.
ومن شروط هذا الجهد العربي الجماعي توافر الحد الأدنى من الإرادة السياسية للقبول بمواجهة، ولو محدودة، مع الولايات المتحدة. وتقتضي الصراحة القول إننا لا نرى بوادر ذلك لا في السعودية ولا في مصر. إن ما نراه، على العكس، بوادر اندراج في «حلف المعتدلين» الذي يعيد ترتيب الأولويات في المنطقة والذي تؤدي مفاعيل قيامه، بالضبط، إلى دفع الفلسطينيين نحو انتهاك حرمة الوحدة الوطنية.
يعلم حكام المملكة أن الوضعين العراقي والفلسطيني معقدان جداً. يعلمون، أيضاً، أن الوضع اللبناني أقل تعقيداً، حتى الآن على الأقل. ولعل من الواجب الهمس في آذانهم أن بعضاً مما يجري في لبنان هو كناية عن محاولة نقل الكارثة العراقية إليه لمعاقبة أبنائه على استعدادهم لنصرة الفلسطينيين. أين سياسة المملكة مما هو حاصل لدينا؟ هل تدرك جيداً ما يفعله حلفاؤها؟ هل تريد رعاية الانقسام وتمويله؟ ألا تملك ما تقدمه سوى التفاؤل الأبدي والمحبّب لسفيرها لدينا؟ هل تنتظر أن ينهي عمرو موسى مبادرته كما أنهى مختار لماني مهمته؟