strong>فداء عيتاني
قبل الأوّل من كانون الأوّل، العام الماضي، كانت تتردّد على ألسنة كثيرة جمل ورديّة تفيد بأنّ «اللبنانيين قد تعلّموا من دروس الماضي»، و«في ظل الوعي الحالي فإنّ العودة إلى الوراء مستحيلة»، وأنّ «لا حرب أهليّة ما دامت قوى 14 آذار موجودة». فهل لا يزال هذا الواقع قائماً بعد ما جرى يوم الخميس الفائت؟

منذ العاشر من كانون الأوّل الماضي، وخصوصاً بعد الثلاثاء الدامي والخميس الأسود، أخذ الخطاب السياسي بالتحوّل نحو ما يمكن اعتباره تفنيد ظروف الحرب الأهلية المقبلة، فبدا الكلام السياسي وكأنّه ينحو صوب تحديد شروط دخول هذه القوى في الحرب الأهلية وظروف هذا الدخول وحدوده. وصارت المسألة مشروطة على طريقة المعادلات الرياضية: «إذا تم استكمال هذه المعادلة، فإنّ النتيجة = الحرب الأهلية».

خريطة البلاد
«طالما أنّ (حسن) نصر الله يهرب من الحرب الأهلية، فإن الهجوم عليه وعلى من معه سيتم عبر الفتنة»، هي عبارة تسقط سهواً من أحد مناصري تيار المستقبل المقربين من مراكز قيادة هذا التيار. وفي الوقت نفسه، يتسرّب كلام من قادة الأكثرية عن وضعها في المناطق حيث كانت الخريطة ليوم الأربعاء الذي سبق اشتباكات الجامعة العربية والطريق الجديدة، كما يأتي:
في الشمال، تم تراجع المعارضة. وثمة قدرة كبيرة على التحول الى المواجهة المباشرة التي تدفع الخصم في الشمال الى اللجوء الى العنف. ويمكن أن تستنفر طرابلس، بعد حقنها مطوّلاً ضد حزب الله، في وجه منطقة جبل محسن. ويكون ذلك رداً على انتشار غير متوقع لجبهة العمل الإسلامي وعمر كرامي في المدينة. أمّا الجنوب، فخارج السيطرة، ومنطقة صيدا يمكن الاستعانة فيها ببعض القوى لخلق أزمات، إضافة الى أن تيار المستقبل له ما له من حيثيات بين أهل المدينة. وفي الجبل، حدّث ولا حرج، حيث كان القرار المركزي للحزب التقدمي الاشتراكي بعدم استخدام النار يوم الثلاثاء، لكون القدرة الفائقة له، كما يراها هذا الحزب، تمكّنه من السيطرة الكاملة على مناطقه ذات الأغلبية الدرزية. أمّا مناطق المتن الأخرى وامتداد محافظة الجبل، فقد تم التصدي المباشر للتيار العوني فيها عبر قوة ضاربة انتقلت من مكان الى آخر. ويبقى البقاع منطقة نزاع يمكن إلهابها بسرعة بين السنّة والشيعة. أمّا بيروت فمعضلة أتى جزء من حلّها عبر قوى المعارضة التي أتاحت، عبر صدامات يوم الثلاثاء الشهيرة، للدعاية «المستقبلية» أن تعمل على خط «انتبهوا... الشيعة قادمون». وقد عبّر عدد من قادة الأكثرية عن قلق من إمكان صمود الطريق الجديدة في ظل هزة مقبلة. وتنطلق هذه القيادات (كما تنطلق بعض قيادات المعارضة نفسها) من فكرة نمطية تفيد بأنّ «السنّة لا يقاتلون». ويشترط أحد قادة الأكثرية أن تصمد الطريق الجديدة في ظل المشكلة المقبلة حتى تتحقق قدرة قوى 14 آذار على الحفاظ على العاصمة وعلى الحصول على الغطاء السني في مجمل حركتها السياسية.

التجربة صفر

ليل الأربعاء، عقد عدد من اللقاءات التي باتت معروفة. التقت مجموعات من الحزب التقدّمي الاشتراكي في منطقة الوطى بشكل خاص، ومجموعة من الشبّان الفلسطينيّين الذين ربّما كانوا أقرب إلى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، علماً نأن مصادر أمنية تشير الى أن لا ارتباط فعلياً لهؤلاء الشبان إلا المال والعنف. وقدّم عدد من الشبان من تيار المستقبل أعذاراً مختلفة إلى أرباب عملهم تفيد بأنّهم سيتغيّبون نهار الخميس عن العمل، وظهرت صور هؤلاء لاحقاً في عدسات الأجهزة الأمنية.
الاستعدادات للتجربة صفر استكملت، ودق النفير يوم الخميس، ووقعت الواقعة. والأدهى من ذلك هو وقوع قوى المعارضة في فخّ محاولة اقتحام الجامعة العربية عبر رفد الاشتباك المدني حتّى لحظتها بمزيد من العناصر البشرية، وهو ما برّر تلقائياً إشاعة العبارة الذهبية لمناصري الأكثرية «الشيعة قادمون لاحتلال الطريق الجديدة». وانتقل أمر العمليات من منطقة الى أخرى، ووصل الى عائشة بكار حيث أطلق عياران ناريان نحو سيارة للقوى الأمنية قرب دار الفتوى، وانتشر المئات من الشبان المستقبليّين حول هذه الدار في محاولة «لاعتقال الشيعة على الهوية»، قبل أن يقمع الجيش اللبناني هذه المظاهر شبه العسكرية.
وقفت عناصر أمنية رسمية تراقب بذهول عملية إخراج السلاح من مستودع أحد المباني. العناصر الأمنية الواقفة من جهة جامع الخاشقجي راقبت أحد الشبان يوزع السلاح على شبان من تيار المستقبل من مبنى تملكه عائلته التي علّمته في الجامعة الأميركية في بيروت، فأصبح يمسك العصا من المنتصف بين الشاب المتعلم وجليس الصالونات السياسية وبين زعيم الحي والزاروب. عناصر الأمن الرسمية لم تتدخّل، فالقيادة العسكرية كانت تحاول تطويق ما يحصل، لا حسمه. كما راقبت العناصر الأمنية ضلوع عناصر أخرى في النزاع، من دون أوامر ربّما، أو انسياقاً في جنون مذهبي. ثم عملت في الأيام الماضية على الطلب من الجهاز الذي تتبع له هذه العناصر التعاون في مجال التحقيقات وتزويدها بصور المسلحين، مكتشفة تعاوناً مقبولاً من قبل هذا الجهاز.

نتائج ومداهمات

نجح من وقف وراء يوم الخميس في تحقيق عدة أهداف. أقام «غيتو» غير قابل للاختراق على المستوى المذهبي، وأكّد رفض العاصمة (بأبنائها الطبيعيين) للمعارضة، وأشار الى أن الهجوم قادم من الآخر، عبر تدخل شبان المعارضة في النزاع في الجامعة العربية. كما نجح في تجربة الاشتباك المسلح والصمود بوجه «اختراق المنطقة»، وأيضاً في أداء دور «الكمائن الراقصة» بحسب اللغة العسكرية، حيث بدأ إطلاق النار في أكثر من منطقة، وانتقلت حالة الاستنفار الى العديد من مناطق «المستقبل» في العاصمة، لا بل تمّت مهاجمة مناطق ذات أكثرية لحركة أمل المعارضة.
إلا أنه بعد بدء التحقيقات الأمنية في ما حصل يوم الخميس، يكتشف الضباط الواقفون في نقاط الاشتباكات مصادر إطلاق النار. لم تأتِ الرصاصات من الطريق الجديدة وحدها، وهم مع معرفتهم بالتداخل في المناطق هناك، إلا أنهم احتسبوا مسار العديد من الرصاصات القاتلة الآتية من مناطق أخرى. وبدأ التحقيق في تدخل شبان فلسطينيين على خط إطلاق النار، كما بدأت أسماء محرضي شباب الطريق الجديدة بالتوافر، وطالب الجيش أهالي العديد منهم بتسليمهم إليه. بعض كوادر المستقبل نصحت الأهل بعدم التجاوب، ويروي مصدر أمني عن أحد كوادر المستقبل في المنطقة قوله «لا تسلموه، فخلال أسبوعين سنطرد الجيش ونغلق المنطقة بوجه حزب الله». أهل الشاب المطلوب سرّبوا الكلام الى المسؤولين الأمنيين في تعبير عن حسن نواياهم، مشيرين إلى أن الشاب (كما العديد من المطلوبين بأحداث يوم الخميس) تم نقله إلى مربّع أمني في بيروت.
يوم أمس الاربعاء، بدأت الشرطة العسكرية بمداهمة بعض المناطق التي يشتبه في وجود شبان فلسطينيين شاركوا في إطلاق النار على الجيش اللبناني كما على المواطنين داخلها، إلا أن موضوع مقتل أحد الضباط يبقى أخطر وأكبر من مداهمات وإطلاق نار للدعم، وأصابع الاتهام كما المعلومات الأمنية لا تستثني مجموعة أبو فراس الاشتراكية التي شاركت من عدة نقاط، ليس فقط في إطلاق النار بل في توقيف وضرب مارة ومعارضين.
وقد وقف القادة الأمنيون عند معلومات موثقة ومصورة ودقيقة حول تدخّل من سمّتهم «حرّاس الأرز السنّة» في أحداث يوم الخميس، وهي مجموعة عرفت سابقاً بمجموعة الصندقلي الذي ادّعى يوماً أنه شيخ معمم، بينما تبين أنه مجرد مخبر (حينها) لدى الشعبة الثانية في الجيش اللبناني. وهذه المجموعة كانت تتواجد بعد اتفاق الطائف في المناطق المحتلة من قبل إسرائيل، ثم هربت مع فلول اللحديين الى أراضي العدو، وعادت حاظية بأحكام هزيلة من القضاء العسكري وانخرطت مجدداً في الحياة المدنية في الطريق الجديدة وغيرها من المناطق. وتبحث الجهات الأمنية عن أماكن لجوء هؤلاء اليوم بعد أن بدأت في «تجميع» المتورطين والمتهمين بالتورط في سجون الشرطة العسكرية.

غزوا وغزونا

لا يزال الاستنفار في المنطقة سيّد الموقف. ربّما كان غير معلن وغير ظاهر نهاراً للعيان، إلا أن الشبان يدسّون بين بعضهم ليلاً شائعات مفادها بأن «الشيعة قادمون فاستعدّوا»، محافظين على حال من التحريض والاستنفار قد تزول في حال تأمّل الشبان بما آلت إليه حالهم بعد اشتباكات يوم الخميس. ويصر شاب يقود سيارة أجرة على القول «رحم الله الرئيس الحريري. قلنا له ليوطنّا في بيروت بدل تركها للآخرين، إلا أنه لم يسمع»، في إشارة إلى اضطرار أبناء المناطق البيروتية الى الانتقال للسكن خارج العاصمة. يعود هذا السائق ليلاً ليسهر مع شبان منطقته الأم، الطريق الجديدة، ويتجوّل في منطقة السبيل، لحراسة أبناء طائفة تخاف من أخرى، فيما الأخرى تخاف بدورها من الكل. وفي هذه الأثناء، ظهر زعيم طائفي على وثائقيّ الجزيرة ليختصر الحرب الأهلية بالقول «هم غزوا... ونحن غزونا».




الفلسطينيّون وسط حقل النار!الفلسطينيون مظلومون سلفاً، اجتماعياً وسياسياً وأمنياً، إلّا أن ثمة خمسة عشر عاماً من الغزل بين القادة الأمنيين اللبنانيين والقادة العسكريين الفلسطينيين، حُلّ في خلالها الكثير من المشكلات العالقة بين الطرفين، كما تمكّنت من الرد على كل ما يقال عبر الإعلام عن «البؤر الأمنية والمناطق الممنوعة على الدولة»، عبر تسليم المطلوبين في الكثير من الحالات الى العدالة اللبنانية. إلا أنّ التقدّم خطوة أخرى على مستوى التعاون يبقى رهينة التفاهم السياسي، وهو خارج سيطرة الطرفين أو نياتهما المباشرة.
الفلسطينيون عانوا الكثير في لبنان. قبل أن يوقّع اتفاق القاهرة كان على الفلسطيني الحصول على ترخيص أمني من الشعبة الثانية للعبور من منطقة الى منطقة وخاصة بعد نهر القاسمية، وكان العامل الفلسطيني الذي يستخدمه اللبناني لا يحصل على أكثر من نصف راتب اللبناني عدا عن حرمانه أي نوع من الضمانات، واليوم لا يزال الفلسطيني يبحث عن سبل العمل الممنوعة عنه كما التملك في أرض وُلد وكبر فيها، ولم يشاهد منها أكثر من أرض مخيمه الفقير، وذلك تحت شعار كبير ومبدئي يفيد بمنع التوطين وإعادة اللاجئين الى بلادهم المحتلة.
خيضت في الفلسطينيين الحروب، ووضعوا واجهات للصراع الأهلي، وتحولوا الى جيش كبير قبل أن يُطردوا. والقادة العسكريون اللبنانيون الذين يصرون على حسم ملف التدخل الفلسطيني في اشتباكات الخميس بعثوا بالعديد من الرسائل عبر موفدين من القوى اللبنانية الى كل القوى الفلسطينية بضرورة التعامل بجدية مع هذا الملف وسحبه من أيدي العابثين بالأمن، حتى لا تتكرّر المأساة التي عاشها الفلسطينيون سابقاً.
وتشير المعلومات المتوافرة إلى أن ثمة من حاول إشعال فتيل الحقد الفلسطيني ضد القوى المعارضة عبر التذكير بأحداث حرب المخيمات وما رافقها من قتل وحصارات وسفك دماء، من دون أن يستعيد أي من هؤلاء ما تعرّض له الفلسطينيون من استخدام في حروب الجبل المتنقّلة والمختلفة وما آلت اليه حالهم بعد استخدامهم في حروب مذهبية وغزوات قبلية.
وفي الرسائل التي وصلت الى القادة الفلسطينيين أنه ليس من مصلحة أحد أن يوضع الفلسطينيون وسط حقل النار مجدداً، وأن الجيش اللبناني مصر على اعتقال من لديه أسماؤهم، حتى لو تطلّب ذلك دخول القوى الأمنية الى قلب مخيم شاتيلا ومداهمته. كما أنه من الضروري منع تورط الفلسطينيين في أي مشكلة داخلية مستقبلية حفاظاً عليهم وعلى وضعهم الحالي.
يبقى أن هناك من يشجع شباناً احترفوا العنف على عدم الاستسلام للقادة الفلسطينيين أو اللبنانيين، والحفاظ على ثباتهم لأن الأيام المقبلة ستحمل تطورات كبيرة.