الشمولية في ضوء الحقيقة
  • مأمون ملاعب

    قد أفهم قيام تحالف سياسي بين فريقين في مرحلة ما ومن ثم افتراقهما في مرحلة لاحقة. قد أفهم تكتلاً نيابياً من فرقاء لأمر ما، أو حكومة تجمع أحزاباً مختلفة تحت بيان ما، ومن ثم تخاصم الأحزاب نفسها في شأن سياسي آخر. كل هذه الأمور قد تحدث، بل أكثر، ومن المفترض أنها تتم تحت سقف المصلحة الوطنية العليا التي قد يراها كل حزب أو فئة من وجهة نظره والحكم فيها للشعب أو للتاريخ. وإني أتفهم التبدل الأيديولوجي عند المرء وتغيير قناعاته وأفكاره حتى التزامه، وهذا طبيعي، لكن المستغرب جداً هو التبدل الأيديولوجي أو تبدل القناعات الأساسية عند جماعة من البشر تشكل حزباً أو متحداً أو شريحة بشكل ما، مع تبدل رأي القائد، وبالخصوص حين يكون شعار الانقلاب مصلحة القائد السياسية. إنه أمر مستهجن أن تكون قناعات الجماعة وعقائدها مرتبطة بمصلحة القائد أو رؤيته أو وضعه النفسي!! لقد كان وليد جنبلاط جريئاً جداً حين قال: «إن لبنان هذه الكذبة الكبيرة» ساخراً من نشوء لبنان من رحم المتصرفية بقرار من الحلفاء. وقد كان مستغلاً جداً حين وقف في ساحة الشهداء قائلاً «بالدم بالروح نفديك يا لبنان»، وإني لست الآن في معرض نقد القول بل في مقارنة المواقف. هل لبنان هو وطن يؤمن به جنبلاط وأتباعه؟ أو هو كذبة كبيرة يمنع رفع علمه مدى عشر سنوات في مناطق الإدارة المدنية! وإذا كانت الحجة في ذلك أنه في فترة الحرب كان جنبلاط معادياً للسلطة الممثلة بشاه بعبدا: أمين الجميل، فهل معاداة السلطة هي حجة كافية لإلغاء الدولة؟ فماذا مثلاً إذا خرج من الحكم وتسلّم الحكم معارضوه، فهل يسقط الوطن مجدداً؟ وماذا مثلاً إذا كانت مصلحته في أن يكون رئيساً لدولة على حجم الشوف أو أكبر قليلاً؟؟ في أعماق معظم الدروز لا وجود لوطن! وطنهم هو القبيلة الكبيرة!.
    قد نفهم أن «شاه بعبدا» تحول إلى فخامة الرئيس، وأن بشير أصبح «شهيداً»، وأن قائد القوات اللبنانية في معارك الجبل أصبح «حكيماً»، فهذه تبدلات سياسية! لكن ماذا عن سبب الخلاف وسبب الحرب وكل الخراب وكل الدمار والقتل والتضحية. فإذا كانت أسباب الحرب الأهلية هي طائفية بحتة فالجميع معذور!! وهم لا يريدون فتح ملفات الحرب من أجل المصلحة العامة!! أما إذا كانت أسباب الحرب هي ما كنا نسمعه من تصريحاتهم، فإن من حقنا أن نسأل وأن نحاكم. هل انهزم المشروع الانعزالي أو خرج أمين الجميل منه؟ هل تأكدت هوية لبنان العربية وأصبح جعجع عربي الانتماء، أم أصبح جنبلاط انعزالي التفكير؟ هل كانت قذائف النيوجرسي التي تحصد تلال سوق الغرب وعاليه قذائف عدوة، أم الولايات المتحدة تغيّرت نظرتها إلى قضايانا فتحولت إلى دولة صديقة تدعم مصالح لبنان وسيادته؟
    منذ فترة قصيرة، بالمقارنة مع 29 سنة، كان الزعيم الدرزي يعتبر الدخول الأميركي إلى العراق احتلالاً غاشماً، وكان مهندسو ذلك الاحتلال مجرمين، وبعد سنتين فقط يصبح الاحتلال نفسه قراراً صائباً ويتطلب تصحيح الموقف السفر إلى الولايات المتحدة للاعتذار.
    قد نفهم انتماء الحزب التقدمي الاشتراكي إلى الاشتراكية الدولية، لكن ما يصعب فهمه هو: هل هذا الحزب اشتراكي؟ فإذا كان ذلك صحيحاً، فلماذا لا يعارض مشروع الخصخصة: خصخصة الماء والكهرباء والهاتف والنقل؟ لماذا لا يعارض فرض الضرائب بوضعها الحالي ويطالب بإعادة توزيعها؟ لماذا لا يطالب بدعم القطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية؟ أو أن الحزب ليس اشتراكياً إلا باسمه، علماً أن رئيس الحزب كان قد أعلن في أواسط التسعينيات عزمه على تغيير نشيد الحزب الأممي وعلى دعوة بعض المثقفين في الحزب لتطوير العقيدة. والحزب اليوم صديق لأميركا وفرنسا. حليف للقوات اللبنانية والكتائب وتيار المستقبل وجميعهم أصحاب رؤية إمبريالية وليبرالية. وفي الوقت نفسه هو خصم للأحزاب الاشتراكية. بعد كل هذا لماذا الإبقاء على اسم الحزب بدل تحويله مثلاً إلى الحزب الدرزي الجنبلاطي أو الحزب الجنبلاطي الليبرالي. ثم لماذا يبقى انتماء الجماعة المنضوية تحت لواء الاشتراكية مع كمال جنبلاط هو نفسه مع وليد في ظل عقيدة أخرى؟ خلاصة الموضوع أن الحزب التقدمي الاشتراكي لا يحوي حركة عمالية أو فلاحية أو نقابية. إنه حالة ارتباط تاريخي بين جزء كبير من الطائفة وزعيمها الإقطاعي التقليدي. إنها حالة تبعية كاملة تبررها المصلحة.
    لا شيء في هذه المسيرة ثابت، والمتغيرات والتقلبات رهن بالظروف وبالآخرين. هذه هي الشمولية بصورة واضحة.