نقولا ناصيف
تحاول العودة المرتقبة للأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى إلى بيروت بعث الروح في التسوية التي كان قد توصّل إليها في زيارته الثالثة في كانون الأول الفائت، وفصل الشق اللبناني عن ذاك الإقليمي في الأزمة الداخلية. وتتوخّى هذه العودة تكريس ما كان قد سلّم به الأفرقاء اللبنانيون في المبادئ الرئيسية لخطة موسى، المتعلقة بمعالجة متوازية للمحكمة ذات الطابع الدولي وتأليف حكومة وحدة وطنية، بحيث يُنظر في ملاحظات المعارضة في مشروع المحكمة، وفي الوقت نفسه يُعاد بناء السلطة التنفيذية على نحو متكافئ لا يمكّن أياً من طرفي النزاع، الغالبية البرلمانية والمعارضة، من السيطرة منفرداً على قرار مجلس الوزراء. والواقع أن سلسلة المواقف الإيجابية من الحوار والحاجة إلى الخروج من دائرة العنف والاشتباك التي أطلقها هذان الطرفان في الساعات الأخيرة، بما في ذلك الترحيب بعودة موسى، أوحت أنهما اختارا الحل السياسي. أو في أبسط الأحوال اكتشفا عقم غلبة أحدهما على الآخر سواء من خلال الاحتكام إلى الشارع أو الاستئثار بالسلطة. والأمران قادا إلى الانفجار المذهبي.
لكن العودة الجديدة للأمين العام للجامعة العربية تقترن بدورها بسلسلة معطيات لم يكن في الإمكان مقاربتها تماماً الشهر الفائت، منها:
1 ـــــ أن العودة إلى خطة موسى أضحت أكثر كلفة، بعدما خبر اللبنانيون الفتنة بوجهيها السني ـــ الشيعي، والمسيحي ـــ المسيحي. وبعدما لمسوا أن الخطر لا يحدق بالوحدة الوطنية والسلطة المركزية فحسب، بل أيضاً يضع الجيش في دائرة خطر مشابه وهو يواجه اقتتال طرفين لبنانيين لن يكون في مقدور المؤسسة العسكرية مواجهته ولا الانحياز إلى أحدهما، وإن كان الحكومة الشرعية والدستورية، وقمع الآخر. الأمر الذي يحمّل أي حل سياسي جديد وزراً يتجاوز الاتفاق على تقاسم السلطة التنفيذية الجديدة، إلى إيجاد الخطوات الضرورية لوقف الاحتقان المذهبي الآخذ في التصاعد. ومنذ الخميس الفائت (25 كانون الثاني)، يكاد لا يمر يوم إلا يُؤتى فيه على ذكر حوادث أمنية متفرقة في بعض الأحياء تعبّر عن حجم الاحتقان المذهبي، السني ـــ الشيعي خصوصاً.
2 ـــــ أن المخرج الوحيد لولوج معادلة «لا غالب ولا مغلوب» التي يرفعها موسى شعاراً لخطته السياسية، يقضي بموافقة طرفي النزاع على تأليف حكومة وحدة وطنية تأخذ في الاعتبار حساب 19 + 10 + 1. وهو حل جزئي وموقت لمشكلة أكثر اتساعاً وتعقيداً تهمل البنود الأخرى من الخلاف، وأبرزها انتخاب رئيس جديد للجمهورية المؤجل إلى المهلة الدستورية لهذا الاستحقاق. لذا لا تقتصر مهمة الحكومة الجديدة على استيعاب الشارع المذهبي ومنع فوضاه وانفلاته فحسب ـــ على أهمية هذا الهدف وخطورته ـــ بل الاستعداد لمواجهة هادئة وتوافقية لانتخابات رئاسة الجمهورية، لا تضع هذا المنصب في مهب الريح، ولا في يد فريق دون آخر.
3 ـــــ أن تشبّث كل من طرفي النزاع بشروطه المسبّقة من الصيغة التي يريدها لتركيبة الحكومة الجديدة، لا يفضي إلى تمكينه من السيطرة منفرداً على قرار السلطة التنفيذية. ذلك أن غالبية الثلثين في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة أظهرت لقوى 14 آذار عجزها عن اتخاذ قرارات قابلة للتنفيذ في ظل استقالة الوزراء الشيعة الخمسة، وفي ظل الخلاف الناشب بينها وبين رئيس المجلس نبيه بري، وفي ظل مقاطعتها الرئيس إميل لحود. فإذا بها قادرة على دعوة مجلس الوزراء إلى الانعقاد، والالتئام، والاستفاضة في التداول وشن الحملات العنيفة على المعارضة، واتخاذ القرارات، ونشر بعضها في الجريدة الرسمية، على أن ذلك يبقى حبراً على ورق من دون التوقيع والإحالة الدستوريين والملزمين لرئيس الجمهورية، ومن دون تجاوب رئيس المجلس مع قرارات كهذه تحمله على دعوة مجلس النواب إلى الانعقاد ومناقشة ما قررته الحكومة. وهكذا، مع أن غالبية الثلثين الحالية هي نفسها منذ تأليف الحكومة في 19 تموز 2005، فإن هذه بصفتها حكومة الأكثرية النيابية كانت أقوى وقتذاك منها اليوم، وكان في وسعها كذلك استخدام الأكثرية المطلقة في مجلس النواب على نحو يمرّر لها كل القوانين التي تريدها، بما فيها تلك التي كان يعترض عليها لحود أو يتحفظ عنها بري، كقانوني تعديل المجلس الدستوري والمجلس المذهبي الدرزي. وكان في وسعها، وعلى رأس الطاولة رئيس الجمهورية وعند أطرافها الوزراء الشيعة، إعطاء قوى 14 آذار كل ما تريده من قرارات من دون أن تكون هذه مشوبة بعيب دستوري أو ميثاقي. الأمر الذي باتت تفتقر إليه بعد استقالة وزراء حزب الله وحركة أمل في 11 تشرين الثاني الفائت بشهادة التجميد الذي أصاب منذ ذلك التاريخ مشروع المحكمة الدولية.
4 ـــــ أن مضارّ منح المعارضة الثلث المعطّل في حكومة الوحدة الوطنية لا تقل عن تشبّث الغالبية بثلثي مقاعد الحكومة. لا هذه استطاعت أن تحكم دستورياً، ولا تلك سيكون في وسعها أن تحكم دستورياً في ظل تمكين طرف لبناني دون آخر من وضع اليد على قرار السلطة التنفيذية. ذلك أن إعطاء الثلث زائداً واحداً للمعارضة سيف ذو حدين يستخدمه كل من الطرفين في مواجهة الآخر، ويعرقل مقدرته على التحكم في قرار مجلس الوزراء. وكما نجحت المعارضة في تجريد الطبيعة الدستورية لحكومة السنيورة من وجهها الميثاقي عبر خروج وزراء طائفة كبرى، فإن إمساك المعارضة بالثلث المعطّل لا يمكّنها بالضرورة من السيطرة منفردة على القرار الحكومي، وتالياً لا يحرم الغالبية مناورة دستورية فاعلة. والمقصود بذلك أن سلاح المعارضة في حكومة تمسك فيها بالثلث زائداً واحداً يجعلها:
ـــــ تتحكم في نصاب مجلس الوزراء، وتعطيل انعقاده إذا غاب الثلث زائداً واحداً.
ـــــ وقادرة على التواطوء مع رئيس الجمهورية، بحمله على رفض جدول أعمال يُعدّه رئيس مجلس الوزراء ولا يرضي المعارضة.
ـــــ وفي أسوأ الحالات تذهب بالحكومة إلى الانهيار باستقالة الثلث زائداً واحداً من أعضائها الذين هم وزراء المعارضة.
في المقابل، فإن تخلي الموالاة عن ثلثي مجلس الوزراء يزوّدها أيضاً أكثر من أداة ضغط على المعارضة، تضع الحكومة الجديدة في مهب الريح من خلال بعض الصلاحيات الدستورية الحصرية التي لرئيس مجلس الوزراء:
ـــــ برفض دعوة مجلس الوزراء إلى الانعقاد. ولا يكون في إمكان نائب رئيس مجلس الوزراء عندئذ، إلى أي موقع سياسي انتمى، دعوة المجلس إلى الانعقاد، للأسباب نفسها، المذهبية والميثاقية، التي تجعل بري اليوم يحمل مفاتيح الأبواب الموصدة لمجلس النواب. وفي حال كهذه تنقلب الأدوار رأساً على عقب. وما يصحّ هناك يصحّ هنا.
ـــــ بإعلان استقالة حكومته، وهو حق مطلق لرئيس مجلس الوزراء وغير مقيّد بشرط. الأمر الذي يؤول إلى اعتبار الحكومة مستقيلة، ويصبح الثلث زائداً واحداً عندئذ، كالثلثين المقرّرين في ظل شرخ وطني، وهمياً وعديم الجدوى.
خلاصة ذلك معناها أن كلاً من الطرفين، أياً تكن تركيبة الحكومة الجديدة، في حاجة إلى ضمانات أخلاقية وسياسية من الآخر.