جوزف سماحة
يمضي، اليوم، شهران على التحرّك الذي أطلقته المعارضة اللبنانية. إنها محطة قد تدفع إلى التأمّل بما جرى، وإجراء تقويم للحصيلة، وتلمّس آفاق المرحلة المقبلة. إن أي مراجعة تقدم عليها المعارضة يفترض بها أن تأخذ العناصر التالية بالاعتبار:
أولا ـ لقـد جرى اســتخدام وســــائل ضغط ديموقراطية ودستورية متنوّعة: من استقالة الوزراء، إلى التظاهر، إلى الاعتصام، إلى الإضراب السياسي العام. قد لا يستنفد ذلك كامل جعبة الأدوات الاحتجاجية، لكنه يستنفد معظمها. ويمكن الزعم أن جمهور المعارضة كان، في كل مرّة، على الموعد. ويمكن التأكيد أن التعبئة كانت عالية وناجحة. وكذلك يمكن الاستنتاج أن ما حصل كان يمكنه أن يجعل المعارضة في موقع الشريك الكامل في السلطة وأن ينتج حكومة تقوم على المناصفة. إلا أن ذلك بقي بعيداً. لم تحصل أي استجابة سلطوية. وليس، في الأفق القريب، ما يوحي أن هذه الاستجابة واردة.
ثانياً ـ إن وقائع يومي الثلاثاء والخميس ترمي تحديات كبيرة في وجه التحرّك السلمي. لقد تبيّن أن أهل السلطة لا يمانعون في استحضار المواجهة الأهلية ذات البعد العسكري من أجل الدفاع عن أنفسهم ومواقعهم. لنضع جانباً توزيع المسؤوليات عن إطلاق النار، وحمل الرشاشات، واللجوء إلى القنص، وحرب الصور والكاميرات «الخفيّة» وتعداد المعتقلين من كل جهة... لنضع ذلك كله جانباً لأنه ينتمي إلى عالم التفاصيل ولو المهمّة. الأهم هو أن قراراً سياسياً كبيراً اتُخذ، وأعلنه المسؤولون عنه، ويقضي بالتصدي الأهلي للتحرّك أي بالتصدي من خارج المؤسسات الأمنية. بدا هذا الفريق أنه غير ممانع في الدفع نحو حافة الاقتتال الأهلي، وأنه ينوي تطبيق القوانين بذراعيه، وأنه جاهز للقفز إلى الهاوية.
ثالثاً ـ استحضار المخزون الأهلي، واستحضاره بالسلاح، يرغمان المعارضة على وقفة: هل تسحب برنامجها؟ هل تنسحب من التحرّك؟ هل تبتدع أسلوباً احتجاجياً يبقي على الأهداف ويمنع التوتير من الوصول إلى الذروة التي وصل إليها؟ هل تجاري التصعيد مهما كلّف الأمر؟ هذه أسئلة يجب أن تكون مطروحة. ويترافق ذلك، طبعاً، مع التفكير في جدوى النضال السلمي والديموقراطي من جانب واحد ولمطالب واضحة وذلك عندما تبدو السلطة مثل لوح زجاج ينكسر ولا يخدش. يقود ما تقدّم إلى الاستنتاج بأن المعارضة في مأزق لأنها ترسم لنفسها خطاً أحمر وترفض الانجرار نحو الفتنة والحرب الأهلية. إنها، أي المعارضة، ملاكم فوق حلبة يواجه، بيد مغلولة، ملاكماً يسمح لنفسه بالتجاوزات كلها مستفيداً من انحياز الحكم إليه.
رابعاً ـ لقد تطوّر، خلال الشهرين الماضيين، التماهي بين الحكومة (من بقي منها) وبين رئيسها على ما في ذلك من نقض لاتفاق الطائف نصّاً وروحاً. وتطوّر، في سياق ذلك، التماهي بين رئيس الحكومة وطائفته. يمكن، هنا، توجيه النقد المطلوب كله إلى حملة التعبئة المذهبية التي أدّت إلى نشوء هذا المعطى غير أن ذلك لا يلغي أننا أمام معطى ماثل وقائم وضاغط. يمكن تفكيك الأواليات التي استخدمت لإيصال لبنان إلى هذه النتيجة، لكن هذه النتيجة باتت حقيقة سياسية. يمكن الإطالة في هجاء المقصود من هذه الحملة لبنانياً وعربياً وإسلامياً، لكن آثارها باقية ولو بتفاوت في هذه المجالات.
خامساً ـ لقد تأكد أن هذه الحكومة تحظى بدعم دولي وعربي استثنائي. إن الاستثمار الذي جرى توظيفه في هذه السلطة كفيل بجعل فؤاد السنيورة يبدو، لو أراد «التنازل»، بمثابة جندي فار من أرض المعركة! مطلب المعارضة بالمشاركة الفعلية مرفوض عربياً ودولياً ولو غلّف هذا الرفض بعبارات منمّقة وبعبارات من نوع «نقف على مسافة متساوية من الأطراف كلها».
سادساً ـ ثمة خصوصية في هذا الدعم العربي والدولي. إنه يطوّر اتجاهاً شرع في التبلور في مرحلة سابقة مع أنه اتجاه طارئ على تاريخ لبنان. فمن تقاليد الحياة السياسية اللبنانية أنها تعكس توازنات داخلية موصولة بالتوازنات بين المنطقة العربية، أو الدول المؤثّرة فيها، وبين «الغرب»، أو الدول المؤثّرة فيه. كان يقال، مثلاً، إن المسلمين من حصة العرب والمسيحيين من حصة «الغرب» على ما في ذلك من اختزال. إلا أن الجديد، هذه المرّة، هو التقاء الرافدين الخارجيين في مصبّ واحد (راجع مؤتمر باريس ـ 3). لم يعد المسلمون اللبنانيون كتلة واحدة واستمرّ تهميش المسيحيين. وهكذا لم يعد ثمة مجال لتجاذب عربي ـــ غربي يمكنه أن يقود إلى تسوية. لقد أصبحت البيئة التي يمثّلها فؤاد السنيورة هي مستودع التلاقي بين القوى العربية والغربية النافذة. صحيح أن سوريا وإيران تدعمان قوى لبنانية، إلا أن هذه القوى محرومة من أي احتضان دولي ومحرومة من أي علاقة إيجابية جدية مع «النصاب السياسي العربي الرسمي». إن ما يطلق عليه اسم «السنّية السياسية» هو الطفل المدلّل للنظام العربي الرسمي وللدول الغربية معاً وفي ذلك ما يمكن أن يثير غيرة متأخرة عند أنصار «المارونية السياسية».
سابعاً ـ خصوصية هذا الدعم العربي والدولي للحكومة، بغضّ النظر عن مدى اتّساع قاعدتها الاجتماعية الداخلية، مؤشر مهم. فنحن، في لبنان، لا نعيش عصر ما بعد انتهاء الحرب الباردة. لقد عشنا ذلك في المرحلة الممتدة من 1990 إلى 2004 حيث برزت ثنائية إقليمية (سورية) ـــ دولية. نعيش مرحلة ما بعد الثنائية من أي نوع كانت. أو بالأحرى، يراد لنا أن نعيش في مرحلة انتهاء الثنائيات على أشكالها. إن الدعم الذي تتلقّاه الحكومة هو دعم تحصل عليه في سياق عربي ترسم ملامحه السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.
لقد رسمت هذه الملامح، بما في ذلك في لبنان، في ظل الهجوم الأميركي الظافر على المنطقة. ولما ظهر التعثّر في العراق (ثم في لبنان خلال الصيف) بدت هذه الملامح نافرة وقابلة لأن تُزال. إلا أن الولايات المتحدة استأنفت هجومها ونجحت، جزئياً، في ترتيب أوراقها العربية عبر إرهاصات «حلف المعتدلين». استئناف الهجوم يترافق مع الضغط لإعطاء دور عسكري لـ«عراقيي الاحتلال»، ومع السعي إلى «عسكرة» الخلاف السياسي الفلسطيني. أما في لبنان، فيتخذ هذا الاستئناف بعدين. البعد الميداني يقضي بتحفيز قوى الموالاة على إسقاط حرمة الاقتتال الداخلي. أما البعد السياسي فيقضي، كما تدل خطابات جورج بوش الأخيرة، على أن البحث يجب ألّا يقوم على مشاركة «حزب الله» في السلطة بل على... محاسبته. والواضح أن بوش، بهذه الوجهة، يريد إقامة ربط محكم بين العدوان الإسرائيلي والأزمة اللبنانية الحالية ويرمي على لبنانيين مهمة تنفيذ ما عجز عنه الجيش الإسرائيلي... وتدفع قيادته ثمناً له.
يميل المرء إلى الاعتقاد بأن الموالاة في لبنان، في ضوء ما تقدم، قد تجنح نحو التصعيد السياسي مستفيدة من دروس التصعيد الميداني الذي أقدمت عليه، ومما تراه «نافذة فرص» يفتحها استئناف الهجوم الأميركي العام في المنطقة وعليها. لا يمكن، والحالة هذه، لأي معارضة لبنانية أن تتجاهل هذه المعطيات وهي قيد التفكير في تحركّها ومآله.
ثامناً ـ هناك مفارقة لا بد من تسجيلها. إن «حزب الله»، وهو قوة رئيسية في المعارضة، هو الطرف اللبناني الأشدّ «عسكرة». إلا أنه صاحب مصلحة حيوية في نزع العسكرة عن الساحة السياسية الداخلية لأسباب ذات صلة بدوره المقاوم وبمداه العربي والإسلامي وبحساسيته حيال المسألة المذهبية. كما أن «التيار الوطني الحر»، وهو، الآخر، قوة رئيسية في المعارضة، هو الطرف اللبناني الأشدّ «مدنية». وهو، بالتالي، صاحب المصلحة في ضبط أي مواجهة ومنعها من أن تفيض عن حدودها السلميّة. نحن أمام معارضة مكبّلة بـ«سلاحها» وبـ«مدنيتها». ومكبّلة إرادياً، فوق ذلك، برفض الاقتتال.
تاسعاً ـ هل تقود أي مراجعة تجريها المعارضة، في ظل صعوبة الحسم، إلى الانكفاء؟ إلى ارتضاء الأرجحية في شكلها الراهن؟ إلى التخلّي عمّا تراه حقها وواجبها؟ هل يمكن اكتشاف الحد الفاصل بين الإصرار على التغيير وتجنّب المواجهة الشاملة؟ هل يمكن تحقيق أهداف ذات طابع استراتيجي بتكتيكات ثبت قصورها أمام إصرار السلطة على «كل شيء أو لا شيء» ؟


غداً
كلمة إلى السلطة:
صعوبة الحكم