نقولا ناصيف
انقضى أمس اليوم الأول من تحرّك المعارضة لإسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في الشارع. انتشرت مئات ألوف من المتظاهرين والمعتصمين في ساحتي رياض الصلح والشهداء، فيما لزمت قوى 14 آذار موقف المتفرّج لمراقبة عرض العضلات في يومه الأول والتحقّق من قدرة المعارضين على تجييش الأنصار وتحمّل البقاء في الشارع، وجس نبض البحث عن حل سياسي يكون تسوية مقبولة بين الطرفين. لكن ثمة ملاحظات يمكن استخلاصها من عصيان المعارضة أمس كالآتي:
1 ــــــ بعدما انتقل التشنّج السياسي من الزعماء والأقطاب إلى الشارع، مما يبعث على مخاوف حقيقية من وضع لغة التخاطب في يد الشارع، لم يُبذل أي من الجهود السياسية الجدية بين الطرفين، واقتصر الأمر على مكالمات هاتفية أجراها السنيورة بالرئيس نبيه بري، وقيل إنها ثلاث، طالباً تدخّله والعمل على فتح بعض الطرق وسحب خيم أحاطت بالسرايا الحكومية من كل صوب، فجعلتها محاصرة تماماً. وبدا هذا التصرّف إشارة أولى إلى سلسلة إجراءات ضاغطة مشابهة في الأيام المقبلة سعياً إلى عزل الحكومة والتضييق على رئيسها ووزراء يتخذون من السرايا، منذ استشهاد الوزير بيار الجميل في 21 تشرين الثاني الفائت، مقراً دائماً لإقامتهم ومبيتهم تحت ذعر استهدافهم اغتيالاً. وأجرى رئيس المجلس اتصالات أفضت إلى سحب الخيم من محيط السرايا وتراجعها إلى ساحة رياض الصلح. إلا أن مغزى الرسالة الأولى كان قد وصل.
2 ــــــ في ظل انقطاع الحوار السياسي بين طرفي النزاع، اقترحت جهات تضطلع بدور الوسيط حلاً من شأنه ألا يجعل أياً منهما يربح على حساب الآخر، أو يُشعره بهزيمة، هو أن يصار إلى استقالة وزيرين من الوزراء الثلاثة الذين انضموا إلى الغالبية الحكومية متأخرين بذريعة محاولة إنقاذ الوضع الداخلي من انهيار سيقود حكماً إلى انفجار، بإزاء تصلّب قوى 14 آذار والمعارضة وتمسّكهما بشروطهما. فتكون استقالة وزيرين ــــ يكفيان لاعتبار حكومة السنيورة في حكم المستقيلة ـــــ مخرجاً مقبولاً لا ينال من عزيمة الغالبية أمام جمهورها وصدقيتها وإصرارها على بقاء الحكومة (لأن مَن استقال ليس في صلب قوى 14 آذار الأصيلي الانتماء إليها)، ويستجيب مطالب المعارضة بتأليف حكومة وحدة وطنية. لكن العقبة الكأداء بعدئذ تكمن في مدى استعداد الغالبية لتطوير تقبّلها حكومة وحدة وطنية إلى تخليها عما لا تزال ترفضه حتى الآن وهو الثلث زائد واحداً للفريق الآخر. ومع أن مسؤولاً معارضاً قال إن فريقه لم يتسلّم رسمياً عرضاً كهذا، يجده صالحاً للتفاوض بجعل الوزيرين المستقيلين كبش محرقة تسوية سياسية إنقاذية. ويعتقد، في خلاصة ما استنتجته من اليوم الأول، أن الغالبية قد تكون في صدد البحث عن شرفة تطلّ بها على الحلّ المقبول.
3 ـــ استناداً إلى تقويم المسؤول المعارض بات الشارع في صلب أي تفاوض محتمل سواء كان إلى طاولة الحوار أو بين الطرفين. ومفاد ذلك أن حزب الله والتيار الوطني الحرّ وحلفاءهما ليسوا في وارد فك التظاهر والاعتصام قبل تكريس اتفاق على حل سياسي يستجيب المطالب التي يتوخاها تحرّك المعارضة. ويحمل ذلك المسؤول المعارض على القول إن تفاوضاً تحت وطأة الشارع هو غيره من دونه، ويبدو ـــــ في رأيه ـــــ أن عرض عضلات اليوم الأول أفضى إلى أكثر من عِبرة، أقربها التعويل مجدّداً، كما دائماً، على بري لإيجاد حلّ لكل مشكلة تتصل بتنظيم الاشتباك السياسي الدائر بين الطرفين، مع أنه دفع بأنصاره إلى الشارع كالأفرقاء الآخرين في المعارضة.
4 ـــــ سجّلت الصلاة التي أقامها مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني في السرايا الكبيرة، في معرض تأكيد دفاعه عن حكومة السنيورة والتضامن معها، سابقة لم تشهدها حقب نزاعات أهلية بين اللبنانيين، بما فيها سابقة 1958 ــــــــ المختلفة مكاناً ومضموناً وأهدافاً، عندما أقام مشايخ ورجال دين سنّة الصلاة في الصرح البطريركي في بكركي بعيد زيارتهم البطريرك مار بولس بطرس المعوشي. وكان الطرفان يؤكدان وحدة صف مسيحي ـــــــ إسلامي والدفاع عن العيش المشترك في حمأة «ثورة 1958» وقد أضحت نزاعاً طائفياً. كان المقصود بصلاة رجال دين مسلمين في صرح مسيحي أيضاً تكريس موقف سياسي وطني مشترك من رفض التجديد للرئيس كميل شمعون من صرحٍ ماروني يناوئ الرئيس الماروني. على أن ما حدث البارحة، بمعزل عن الهدف الذي توخته المرجعية السنّية الأرفع في لبنان دفاعاً عن المنصب السنّي الأرفع أيضاً في آلة الحكم اللبناني وتضامناً معه، أبرز أكثر من أي وقت مضى إبّان الأزمة الأخيرة التطابق السياسي بين المرجعيتين، وكأن الثانية تلوذ بالأولى لتحفظ لها موقعها وهيبتها. الأمر الذي لم يسبق لبطريرك ماروني أن حذا حذوه قبلاً أو صلى في قصر بعبدا، ولا فعل ذلك مرجع شيعي في مبنى مجلس النواب. بل اختار الإمام موسى الصدر الاعتصام في كنيسة عام 1975 احتجاجاً على حرب كانت في شهورها الأولى.
والواقع أن صلاة المفتي قباني في السرايا حملت الرئيس ميشال عون، على بعد أمتار وهو يخطب في أنصار المعارضة، على تدارك الموقف بالقول إن المعارضة تريد إبدال رئيس سنّي للحكومة برئيس سنّي آخر، رغبة في إطفاء أي محاولة تريد وضع المعارضة وجهاً لوجه أمام سنّة بيروت، أو تستهدف رئيس الحكومة السنّي.
5 ـــــ أياً يكن البعد المحلي المحض في النزاع والاحتكام إلى الشارع، فإن الجانب المظلم منه هو استمرار نزاع آخر لا يقل تعقيداً عمّا يجري في لبنان، هو بين سوريا والسعودية، سواء اتصل الأمر بالمحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري أو بالعلاقات الثنائية بين البلدين وقد بات جزء رئيسي منها مرتبطاً بما تطلبه الرياض من دمشق حيال عدم تدّخلها في لبنان واستيعاب واقع أنها خرجت عسكرياً وسياسياً، ونهائياً، من هذا البلد. وما يحدث الآن في التجاذب القائم بين البلدين، وعكسه البارحة مرة جديدة الاتصال الذي أجراه العاهل السعودي الملك عبد الله بالسنيورة لتأكيد تضامنه معه، يعبّر عن حجم التباعد بينهما وفاعلية تأثيره في صفوف السياسيين اللبنانيين إلى هذا الفريق أو ذاك.
وخلافاً لصفقة كانا قد عقداها في نيسان 2005 ولّدت في 19 منه حكومة الرئيس نجيب ميقاتي ثمناً لحل سياسي يقضي بحماية المملكة استقرار النظام السوري حيال أي شبهة يمكن أن تطول دوره في اغتيال الحريري، في مقابل تسليم دمشق بحقيقة خروجها من لبنان والكفّ عن التدخّل في شؤونه وإقلاق استقراره، باتت المحكمة الدولية منذ 12 كانون الأول 2005 سبباً إضافياً لنزاع مفتوح بين البلدين، وقد وجّهت تقارير لجنة تقصّي الحقائق ولجنة التحقيق الدولية أصابع الاشتباه إلى النظام السوري. الامر الذي أضفى على الخلاف القائم بين الغالبية والمعارضة في مسألة المشاركة في السلطة التنفيذية بعداً أكثر أهمية يعني دمشق مباشرة، هو تأييد الأخيرة تحرّك حلفائها اللبنانيين لإسقاط حكم الغالبية وإعادة بناء توازن سياسي يفتح باب التفاهم على ملفات داخلية عدة أبرزها على الإطلاق وأهمها المسار المقبل للمحكمة الدولية.