جوزف سماحة
كانت تظاهرة 14 آذار، في جانب منها، رداً على تظاهرة 8 آذار. ارتكب الداعون إليها خطأً جسيماً. اعتبروها تجبّ ما سبقها وتلغيه. قالوا إن لبنان كان فيها حصراً بما يخرج الآخيرين من الوطن. وبدل أن نكون أمام حدثين يلتقيان في عدد من الشعارات ويختلفان في عدد آخر منها، وبدل أن نكون أمام جمهورين لا يستطيع أحد منهما شطب الآخر، بتنا في حضرة فعل تأسيسي لا سابق له ولا مقابل.
مرّت الأيام. تحالف بعض «14 آذار» مع بعض «8 آذار». ثم حصل الفراق فعاد «آذاريو الأكثريّة» إلى ميولهم الإلغائية. ويمكننا الزعم، اليوم، أنهم لم يغادروا هذه النرجسية.
لنفترض أن القوى الداعمة للحكومة استنفرت جمهورها ودعت إلى تظاهرة في 8 كانون الأول رداً على تظاهرة مطلع كانون الأول. ولنمضِ قائلين إن التظاهرة العتيدة اجتذبت حشداً يفوق ما شهدناه أمس. ولنحسب أن الرئيس فؤاد السنيورة وقف خطيباً وحيداً كما كانت الحال مع ميشال عون. هل يستطيع رئيس الحكومة أن يتصرّف كأن شيئاً لم يحصل؟ ألن يكون مضطراً إلى الإعلان أن المخرج من الأزمة هو في تأليف حكومة وحدة وطنية؟
يمكن السنيورة، طبعاً، أن يمضي في التجاهل. لا بل ثمة مقدمات لذلك تتمثّل في التعليقات الأوليّة لمصادر في الأكثرية النيابية والحكومية على بداية الاعتصام المفتوح. إنها تعليقات تتراوح بين التقليل من أهمية ما جرى والتدقيق في الهويات الطائفية والمذهبية للمشاركين. والقصد في الحالتين الإيحاء بأن قطار السلطة ماشٍ ولا ضرورة، بالتالي، للاهتمام بركّاب غادروا القاطرات.
نشهد تطور ظاهرة يشدد عليها أقطاب في «الأكثرية». ومؤدّى هذه الظاهرة أن للسلطة عينين ترى فيهما، لكنها لا تملك أذنين تسمع بهما. عبّر عن ذلك غير مسؤول، سواء بالإشارة إلى التدابير التي اتخذت لحسن سير الاعتصام، أو بالتركيز على أن العلاقة معه هي علاقة «تفرّج» يمكنها أن تدوم أسابيع. بكلام آخر تعلن سلطتنا أنها صمّاء. ترفض أن يصل إليها الصوت الهادر والنابع من الأعماق والذي تصدح به الحناجر والذي يدعو إلى حقه في المواطنية الكاملة، أي إلى حقه في أن يشارك في تقرير المصير الوطني من داخل المؤسسات.
حشد أمس، في الساحتين، حشد يطرق الأبواب ويلح على الدخول إلى حيث يمكنه أن يُسمِع كلمته. وإذا كان الشكل يوحي بأن هناك من يحاصر السرايا، فإن المضمون الفعلي هو أن هناك من يحتج على العزل الذي تمارسه السرايا على بيئات سياسية واسعة يستحيل الكلام، في ظل تغييبها، على أي نصاب.
لا ضرورة إطلاقاً لاستحضار لعبة الديموغرافيا. شهدنا الآثار التدميرية لهذه اللعبة في الحروب الأهلية حين كانت المجازر تتولى تعديل عدد السكان. وشهدناها أيضاً في الاستثمار المتنوّع لأعداد المتظاهرين. وهي حاضرة في أي إشارة إلى الثلث المعطّل... لا ضرورة لذلك لأن في الإمكان الاكتفاء بهذه الملاحظة البسيطة: إن اللبنانيين منقسمون. وإذا جاز لنا اعتبار التظاهرة، أي تظاهرة، ميزان حرارة لما يعتمل في نفوس مواطنين، فإن الحشد في تظاهرة أمس يدلّ على وجود كتلة لبنانية معتبرة تعيش احتقاناً.
التعاطي مع هذا الاحتقان عن طريق التشاوف الأبوي القاضي بالسماح له بحق التعبير عن نفسه، يناقض ألف باء القواعد الأساسية للاجتماع اللبناني وتقاليد الحياة السياسية اللبنانية. إنه تعاطٍ لا يدرك أصحابه كم أن الذين يواجهونهم لا ينظرون إليهم بصفتهم أصحاب الأمر والنهي. إننا في وضع لا يتميّز بخروج أقليّة ما عن «الحظيرة»، بل يتميّز بشعور عميق وصميم وصادق لدى فئات لبنانية بأنها تملك من الشرعية ما يتيح لها الاشتراك في تقرير مصيرها. ويُعبّر عن ذلك بإسقاط الدستورية عن الحكومة وبالاعتقاد أن المشروعية موجودة في ساحتي الحشد بقدر ما هي موجودة في السرايا المطلّة عليهما. لا يعود الوضع وضع حكومة في مواجهة معارضة. إنه، في الحقيقة، شرعية في مقابل شرعية، وذلك بقدر ما أن هذه الشرعية مستمدّة من العلاقة الوثيقة بالجماعات الأهلية.
التكتيك الذي يبدو أن السلطة ميّالة إليه هو السلوك السلبي: تراهن على الوقت، على الموت البطيء للتحرك، على فقدان الزخم، على رفع الراية البيضاء. تفعل ذلك من دون تقديم اقتراح أو تنازل أو عرض تسوية.
لا يستقيم هذا التكتيك مع الزعم أن المعارضة تقود انقلاباً. فالانقلاب يحبط ويُصار إلى التدخل ضده. إنه نهج يقوم على نوع من التعالي المستند إلى رفض الاعتراف بالآخر وإلى تسخيف مطالبه وحقوقه والظن أنه لن يصمد عند الدفاع عنها طويلاً. كيف يمكن هذا الآخر الصمود عند هذه المطالب والحقوق ما دام مجرّد أداة في محور سوري ــ إيراني؟ هل رأى أحد «أداة» تسهر ليل نهار من أجل أن تنفّذ انقلاباً لمصلحة آخرين؟
أمضى الرئيس فؤاد السنيورة شطراً من حياته العامة فخوراً بأنه لا يسمع أنين المواطنين المشتكين من سياسته كوزير مالية. كان يرى أن كراهية البسطاء له وسام يعلّق على صدره لصرامته ودقّته وحرصه على المال العام أو ما يراه كذلك. لقد استمع الكثيرون إليه يقول إن ارتفاع درجة السلبية ضده هو الدليل على صواب رأيه وعلى صحة نهجه.
كان ذلك في وقت كان فيه السنيورة وزيراً تكنوقراطياً متخلياً عن السياسة لغيره. لا يسعه اليوم أن يخلط بين الحسابات الاقتصادية (وكانت خاطئة) والحسابات السياسية. لقد تغيّرت وظيفته وعليه أن يأخذ ذلك في الاعتبار. إن لم يفعل فإن الدّين السياسي العام سيزداد حيال اللبنانيين. والنتائج، في هذا المجال، غير محمودة.