ابراهيم الأمين
تبدو الأمور معقدة أكثر مما يفترض كثيرون. والنجاح الذي تحققه المعارضة في ترتيب تحرك واسع ويومي من دون مشاكل، سوف يزيد حجم المشاركة يومياً، وخصوصاً عند المترددين الذين يخشون صدامات يبدو أن في فريق السلطة من يستعجلها، إما لوقف التحرك المعارض وإشعار الناس بأن كلفته باهظة ولا جدوى منه، أو لأن قواعد فريق السلطة تعيش حالة من التعبئة التي تتطلب في لحظة ما النزول الى المواجهة، وهو الأمر الذي يعمل عليه بقوة كل من وليد جنبلاط وسمير جعجع ولا يرفضه سعد الحريري، علماً بأن الأخير يخوض معركة فاصلة في أول حياته السياسية، وهو وإن كان يعرف مدى نفوذه في الأوساط السنية وقدرته على التفاعل مع مجموعات أخرى من طوائف مختلفة، إلا أنه يظهر أحياناً كأنه مقتنع بخزعبلات بعض معاونيه أو من تركهم جنبلاط يديرون له ماكينته السياسية والإعلامية. ذلك أن طريقة تغطية إعلام “المستقبل” لليوم الأول من التحرك تعكس نوعية رديئة من الصحافة الحزبية التي لا يحتاج إليها الجمهور المتعصب للحريري كي يزداد قناعة بما لديه من قناعات.
مع ذلك فإن التماسك الذي يظهره الرئيس فؤاد السنيورة (مندوب ثلاثي السلطة في الحكومة) لا يعدو كونه استجابة منطقية لحاجات قواعد وحلفاء قوى السلطة. فهو يتمتع بتأييد قسم كبير من اللبنانيين، لكن القسم الآخر، وهو أكبر ولو بقليل، لا يعجبه بقاء السنيورة في سدة المسؤولية، علماً بأن هذا الموقف قد يعكس مطلباً ديموقراطياً لكنه قد يكون سلوكاً تعسفياً ما دام التوازن الطائفي في إدارة البلاد يفرض أن تختار كل طائفة من يمثّلها في الحكم. وفي هذه الحالة فإن حفظ الشيعة لمن يريدونه ممثلاً لهم ونجاح السنة في تثبيت مندوبهم كان يجب أن يكتمل لو أن السلطة فكرت قليلاً وقبلت بمن قرر المسيحيون في اللحظة الحرجة اختياره ناطقاً باسم غالبيتهم. مع ذلك، فإن البحث في مصير الحكومة بات أمراً محسوماً بالنسبة إلى من هم في الشارع، حتى لو تحرك فريق السلطة ومضت البلاد نحو صدامات غير محمودة العواقب فإن حماية هذه الحكومة أمر صعب جداً، ولو جاءها ما جاءها من دعم عربي أو دولي. ولن تكون في أحسن أحوالها بأفضل حالاً من سلطة محمود عباس في فلسطين ولا من حكومة المالكي في العراق.
التحرك السياسي غير ذي فاعلية حتى الآن، لا بل إن الدبلوماسية العربية العاملة على الخط تنحو منحى الضغط المعنوي على فريق المعارضة. استفاقت السعودية فجأة على القواعد الديموقراطية وباتت تشجع على عودة الجميع الى المؤسسات الدستورية لمعالجة الأمر، والقول إن الشارع لا يفيد وإن الآخرين لهم شارعهم الذي ينزل في الوقت المناسب، وإن من لديه نقاط سلبية على الحكومة ورئيسها فليحمل هذه الملاحظات وينزل بها الى المجلس النيابي ويحاسب الحكومة هناك ويطرح الثقة بها إن أراد. أما طريقة تركيب الحكومة فهي أمر يخضع لموازين القوى التي ولّدتها الانتخابات النيابية الأخيرة.
لكن ما هو جديد في الموقف السعودي ليس توفير الدعم أو الغطاء لفريق السلطة، بل توجيه تحذير الى المعارضة بأن محاولة إسقاط الحكومة في الشارع سوف تكون سابقة تنذر بعواقب وخيمة وأن الرياض ترفض هذا الأمر وهي ستقف ضده. وهو الموقف نفسه الذي أعلنته مصر في الرسائل الدبلوماسية ثم في رسالتين عاجلتين بعث بهما الرئيس حسني مبارك الى الرئيس نبيه بري كانت آخرهما أمس، وتضمنت “مخاوف حقيقية ومعلومات عن احتمال انفجار الوضع في لبنان إذا لم تنسحب المعارضة من الشارع ولم يُصَرْ الى العودة سريعاً الى طاولة المفاوضات والحوار الداخلي”. هذا كله يضاف إلى ما يقوله الأميركيون والفرنسيون والبريطانيون الذين يعتقدون أن المعارضة وإن كانت تمثل شارعاً كبيراً إلا أنها جزء من محور خارجي يريد الاستيلاء على لبنان.
ومع أن بري ما زال يفتح الأبواب للاتصالات، إلا أنه ينفي تلقيه أي عرض يمكن حمله باتجاه قوى المعارضة لإقناعها بصوابية العودة الى الحوار من أجل تسوية منطقية. وثمة تركيبة وضعها فريق السلطة وصدّقها وبات يتعامل معها على أنها حقيقة، وهي “خبرية” أن الثلث المعطل في الحكومة هو ثلث معطل مسبقاً للمحكمة الدولية. لكنها تركيبة لا تنفع لحظة الجد. ويبدو من أوساط فريق المعارضة أنه إذا لم تتخلّ السلطة عن هذا الموقف فإنه يصعب التراجع عمّا هو عليه الوضع الآن في الشارع.
لذلك فإن قوى المعارضة ظلت تعمل على مناقشة برنامج العمل الخاص بها: تعزيز عدد المشاركين في الاعتصام المفتوح. تنويع مشاركة القطاعات من كل المناطق ومن كل المؤسسات والقطاعات. وضع خطط للمرحلة الثانية ما يضمن توسع حجم المشاركة لناحية العدد ولناحية المناطق، مع الأخذ بالاعتبار احتمال أن تطول الأزمة شهرين على الاقل، وهو الأمر الذي يرد في أذهان المعنيين دون إغفال احتمال نزول قوى السلطة الى الشارع أيضاً. علماً بأن الهاجس المركزي عند فريق المعارضة يتركز على منع أي صدامات مع الآخرين سواء من جانب القوى الأمنية أو من جانب الجمهور الآخر، والتعامل مع الوقائع الخاصة في الوسطين السني والمسيحي.
لكن هل من برنامج خاص لمواجهة أزمة انقطاع الحوار؟
تراقب قوى المعارضة بحذر وذهول تمسك فريق السلطة بالواقع القائم دون أي تعديل، وبرغم ما وصل من رسائل تهويل باحتمال حصول مضاعفات خطيرة ذات بُعد صدام أهلي، إلا أنها لا ترى مناصاً من الاستمرار في التحرك حتى الوصول الى خلاصات منطقية. ويبدو في هذا المجال أن المناقشات بين قوى المعارضة التي يأخذ التحرك القسم الأكبر منها، لا تهمل العناصر المركزية المتصلة بنوعية التسوية التي يجب أن يذهب إليها الجميع في لحظة التوافق، حيث إن فكرة المشاركة في أي حكومة وحدة وطنية دائمة أو انتقالية تُعد لانتخابات نيابية مبكرة، يجب أن تُرهن بتصور منطقي لهذه المشاركة. إلا إذا تطور الأمر الى حد لا يمكن معه معالجة أي خلل من دون انتخابات تعيد رسم الخريطة من جديد.
لكن لا أحد يعرف ما إذا كانت المعارضة والسلطة على حد سواء تتصوران مرحلة ما بعد الصدام إن وقع. فكيف والشارع يغلي من الاتجاهين!.