عرفات حجازي
لم يعد في إمكان أحد التكهن بما ستؤول اليه الأوضاع الخطيرة مع انسداد آفاق الحل السياسي، وبدء الاعتصام المفتوح، وأخذ المواجهة السياسية طابع اللاعودة، وذهاب الطرفين بعيداً في خياراتهما، بحيث بات الانطباع السائد يختصر بالمعادلة الآتية: لا المعارضة قادرة على إسقاط الحكومة بقوة الشارع الذي يقابله شارع آخر، ولا الحكومة قادرة على ممارسة سلطتها في ظل انقسام وطني وسياسي، متجاهلة الطوفان البشري الذي ملأ ساحات العاصمة.
ويتفق كثير من المراقبين السياسيين على أن لبنان دخل مع بداية كانون الأول مرحلة جديدة أعطتها الاكثرية عنواناً “انقلابياً” على كل “الإنجازات والمكتسبات” التي حققتها منذ ربيع 2005، فيما أعطتها قوى المعارضة عنواناً “تصحيحياً” هدفه إعادة التوازن في مسيرة الحكم والشراكة الحقيقية في رسم مستقبل البلد.
ومع نزول الأزمة السياسية إلى الشارع وانتقالها من مرحلة الحوار والتشاور المقفل إلى مرحلة المواجهات الساخنة، يمكن تسجيل مجموعة من الوقائع والانطباعات التي يختزنها المشهد السياسي في لحظته الراهنة:
أولاً: إن احتدام الصراع السياسي بكل ألوانه وتشكيلاته الوطنية والطائفية والمذهبية يحمل في طياته عوامل التأزم والتفجير، فالطرفان مختلفان على كل القضايا والعناوين الوطنية الكبرى، بدءاً من القرارات الدولية مروراً بالخلاف على مفهوم السلطة والحكم وانتهاء بدور لبنان وموقعه في الصراع الدائر في المنطقة. ففريق المعارضة يرى أن من حقه تصحيح المعادلة السياسية بقيام حكومة وحدة وطنية يشارك الجميع في صياغة قراراتها من منطلق الشراكة الحقيقية في تسيير دفة الحكم، فيما يرى فريق الأكثرية في مطالب المعارضة محاولة انقلاب على التوازنات التي جاءت بها الانتخابات النيابية مع أهداف مضمرة، في طليعتها إطاحة المحكمة الدولية وتعطيل تنفيذ القرار 1701 وإعادة لبنان إلى عصر الوصاية السورية.
وإذا كانت المعارضة مصرّة على تحقيق أهدافها، أياً كانت المحاذير، وهي تستعد لسلسلة خطوات في إطار حملة التصعيد، فإن قوى السلطة من جهتها عازمة على البقاء في مواقعها وعدم الانصياع لمطالب المعارضة وتحتفظ لنفسها، بحسب ما قال الوزير مروان حمادة، بمفاجآت ذاتية لن تكون عنفية، وإنها مستمرة في أداء عملها مع توجه لاستبدال الوزراء المستقيلين. وهذا يعني في المحصلة أن الفريقين سيخوضان لعبة عض أصابع طويلة ومعركة شد حبال أطرافها في الداخل والخارج، بعدما باتا في نقطة قاتلة، فلا الحكومة تستطيع التراجع والاستسلام أمام ضغوط المعارضة، ولا المعارضة في مقدورها أن تتقدم بسهولة من دون السقوط في المحظور الذي يخشاه ويتهيبه الجميع.
ثانياً: الدخول العربي والدولي طرفاً في النزاع الداخلي فاقم الأزمة وأعاد ربطها بصراع الخيارات على ساحة المنطقة، فدخول المحور السعودي ــ المصري ــ الأردني بقوة على خط الخلافات اللبنانية ــ اللبنانية والمجاهرة بدعمه لحكومة السنيورة ورفض المساس بها واعتراضه على التظاهرات الشعبية لإسقاطها، تزامن مع اتصالات ومواقف دولية لواشنطن وباريس ولندن صبت في الاتجاه عينه، مع تحذيرات من حرب أهلية إذا استمر الوضع على ما هو عليه.
أمام هذه المعطيات والوقائع تؤكد مصادر المعارضة أن هذا الدعم المكشوف لقوى السلطة مرده شعور داخلي وخارجي بأن الآتي سيكون أعظم، وأن الأمر لن يطول حتى تبدأ الخطوات اللاحقة للتظاهر والاعتصام والتي ستكون أكثر فاعلية، وساعتئذ لن يستمر زخم الدعم العربي والدولي على ما هو عليه، وخصوصاً أن الخطط الموضوعة لإطاحة الحكومة ستدفع هذه الدول إلى التسليم بالواقع وبإرادة التغيير والقبول بالشراكة الوطنية في الحكم.
ونصحت قوى المعارضة القادة العرب والدوليين الذين سارعوا للشد من أزر فريق الحكم وأبلغوا دعمهم للحكومة، وحثوا ضمناً رئيسها على عدم الإذعان لمطالب المعارضة، أن يطلوا على الواقع اللبناني بصورة موضوعية ومتوازنة بعيداً عن إطلاق المواقف ذات الاتجاه الواحد التي تزيد الشروخ في النسيج اللبناني وتستحضر أجواء الفتنة بدل السعي إلى توسيع مساحات التقارب، وتغليب الحوار والتفاهم بما يعزز وحدتهم الوطنية ويجنب بلدهم أي مخاطر تمس أمنهم وعيشهم المشترك.
ثالثاً: إن الدعم العربي والدولي للحكومة يترافق مع تقارير استخبارية تتحدث عن تحضيرات لسيناريوات عنف ترافق حركة الاعتصامات وافتعال صدامات بين الفئات اللبنانية، وإن هذه التقارير هي التي استنفرت الدبلوماسية العربية والدولية وحركت الاتصالات من كل اتجاه وجعلت الرئيس نبيه بري مجدداً محوراً أساسياً فيها. فقد تلقى العديد من الاتصالات المباشرة وغير المباشرة من قادة عرب ودبلوماسيين وموفدين دوليين تمنوا عليه متابعة جهوده لاحتواء الوضع الخطير، باعتباره القادر على الوصل مع الآخرين والمؤهل لصياغة تسويات معقولة توفق بين الفريقين المتصارعين انطلاقاً من أن الحياة الحزبية والسياسية في لبنان، وخصوصاً في هذا الظرف العصيب، لا يمكن أن ترى في بري خصماً ولا طرفاً، بل تحتاج إليه وسيطاً ورجل إطفاء.
وذكّر بري المسؤولين العرب والدوليين الذين طالبوه بإعادة إحياء مساعيه التوفيقية بأنه دعا إلى طاولة الحوار قبل آذار الماضي، عندما لاحت في الأفق مؤامرات تستهدف وحدة لبنان واستقراره، “وعندما شعر الإسرائيليون بأن الحوار سيأخذ مداه للحفاظ على المقاومة كان العدوان الإسرائيلي في تموز الماضي. وبعد العدوان ظهرت انقسامات حادة وبداية شروخ في المجتمع اللبناني فدعوت إلى التشاور وحذرت من التعنت والمكابرة، لأن الفشل في الوصول إلى تسوية سيهدد لبنان بكوارث أعظم من اغتيال الشهيد رفيق الحريري وأكثر خطورة من عدوان تموز”.
وأكد بري لمراجعيه “إننا توصلنا في التشاور إلى اتفاق، لكن تم إفشاله لسوء الحظ، والآن ماذا باستطاعتي أن أفعل؟ كيف أبادر وليس بين يدي مشروع حل أو أفكار قابلة للتطبيق ومنصفة للجميع؟ أنا لم أبلغ درجة اليأس، وقلت مراراً إنه لا يكفي وجود مساع عربية لإقرار التوافق داخل لبنان، بل المطلوب إيجاد مساحات تنسق بين العرب أنفسهم وبين العرب وإيران، وقطعاً سينعكس التنسيق والتفاهم إيجاباً علينا في لبنان”.
والسؤال: هل ينجح الرئيس بري في وقف اللعبة في منتصف الطريق ويساعده اللاعبون بإعادة النظر في أدائهم وتغيير أسلوب التعاطي مع المشكلة؟ أم ندخل في أزمة أكثر تعقيداً قد تسهم في ضرب الوحدة الوطنية والعيش المشترك؟ لا جواب قاطعاً حتى الآن.