نقولا ناصيف
مذ أعلنت المعارضة حملة التظاهر والاعتصام لإسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة (الأول من كانون الأول)، تلقت عشرات مواقف الدعم شبه اليومي، استكمالاً لتلك التي كانت قد تلقتها على أثر إقرارها مشروع المحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وتركزت هذه المواقف على تأييد الحكومة والتمسّك بشرعيتها نتيجة للسجال الدستوري الذي كان قد نشب بينها وبين الرئيس إميل لحود حيال هذا الأمر بعد استقالة الوزراء الشيعة الخمسة (13 تشرين الثاني).
راكم ذلك تضامناً دولياً وعربياً مع الحكومة التي اعتبر أنها الوجه الدستوري والشرعي للسلطة اللبنانية. وبعدما نزلت المعارضة إلى الشارع تضاعفت المواقف تلك وزيارات مسؤولين فرنسيين وبريطانيين وألمان، إلى ردود فعل سعودية ومصرية وأردنية. رمى ذلك إلى طمأنة حكومة السنيورة من جهة، ودفعها إلى التصلّب وإصرارها على مشروع المحكمة الدولية وعلى رفض الاستقالة والتقليل من أهمية التظاهرات والاعتصامات، وحتى تجاهلها، من جهة أخرى.
لكن الموقف الأميركي مما يجري في لبنان يظل مصدر الثقل الذي يُشعِر حكومة السنيورة بالضمان، ويبقيها في واجهة اهتمام الديبلوماسية الأميركية في المنطقة وجهودها المتلاحقة، على أساس أن الحكومة هي صورة الديموقراطية اللبنانية، والحكومة اللبنانية الاستقلالية الأولى التي لا تحكم فقط من دون تدخّل سوري، بل تقف على طرف نقيض مع دمشق، وتحكم ضد إرادة حلفاء سوريا وضد هذه بالذات. تبعاً لذلك تتساءل جهات واسعة الاطلاع في فريق الغالبية الحاكمة عن الحدود التي يمكن أن يبلغها الدعم الأميركي لحكومة السنيورة ومساعدتها في مواجهة خصومها، وتحديداً قوى التظاهر والاعتصام، والحؤول دون انهيارها تحت وطأة الشارع والعصيان المدني وشلّ آلة الحكم والإدارة والنشاط الاقتصادي وإدخال دمشق مجدّداً في معادلة النزاع الحالي.
يحمل هذه الجهات على طرح تساؤلها هذا ما كانت سمعته من دبلوماسي أميركي عن الطريقة التي يمكن إدارته مواجهة حملة الشارع بها. ولخّصها الدبلوماسي الأميركي عشية اليوم الأول من التظاهر والاعتصام بما يأتي:
1 ـــــ تثابر واشنطن على تأكيد الدعم المطلق للحكومة اللبنانية، تعبّر عنه المواقف العلنية للبيت الأبيض ووزارة الخارجية.
2 ـــــ تُصدر الإدارة «بيانات تخويف وتحذير» لكل من سوريا وإيران لحملهما على وقف التعرّض للحكومة اللبنانية وزعزعة استقرارها، وتنبيههما ــ ولا سيما سوريا ــ إلى موقعهما في المعادلة الإقليمية، ولكن من دون أن يكون ثمة وعد محدّد بحوار أميركي مع دمشق أو الانفتاح عليها. وتعوّل الإدارة في مقاربة هذا الموضوع على دور تقوم به دول أوروبية كبريطانيا وألمانيا، نظراً إلى أن ما بين فرنسا وسوريا أسوأ بكثير مما بين هذه وواشنطن. وكان الأميركيون قد سعوا لدى السعوديين إلى مثل هذا الدور، قبل أن يتنبّهوا إلى تدهور علاقات الرياض بدمشق، فضلاً عن عدم فاعلية تأثير المملكة على نظام الرئيس بشار الأسد.
3 ـــــ تتُحرّك الإدارة لدى الأمم المتحدة لتشديد الضغوط الدبلوماسية على نظام الأسد، وأن لا إمكانات لمؤازرة «الحكومة اللبنانية المنتخبة» إلا من خلال قرارات مجلس الأمن.
واستناداً إلى ما كشفه الدبلوماسي الأميركي، فإن واشنطن تبذل لدى مجلس الأمن جهوداً بعيدة عن الأضواء لإقرار مشروع المحكمة الدولية تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة دونما انتظار مصادقة مجلس النواب اللبناني عليه بسبب التعقيدات التي باتت تحوط بالانقسام الداخلي في الأيام الأخيرة. وأوضح أن إدارته التي تصرّ على المشروع، تعرف أن المصادقة عليه في لبنان تصطدم بإمكان عدم انعقاد البرلمان، فضلاً عن رغبتها في تجنيب حكومة السنيورة مزيداً من أسباب المواجهة مع قوى المعارضة في الشارع. لكنه لفت إلى أن روسيا لا تزال، حتى الآن، عقبة رئيسية في طريق هذا الهدف.
وفي واقع الأمر، من غير أن يُنعت موقف واشنطن بأنه قنابل دخانية محدودة التأثير، اختبر لبنان التدخّل الأميركي على أراضيه ثلاث مرات في فترات متباعدة، وكانت قاعدته الرئيسية التعامل مع استقرار هذا البلد على أنه حاجة إقليمية، وأنه كذلك حاجة لجارته إسرائيل، لكن من دون الانخراط في النزاع الداخلي سياسياً كان أو طائفياً: اثنتان عسكريتان عامي 1958 و1982، والثالثة دبلوماسية هي ما يجري الآن في ظل القرار 1701. وقد تكون التجربتان العسكريتان أبلغ دلالة عندما ميّز الأميركيون تدخّلهم بفعل حدث إقليمي مفاجئ وخطير عن تدخّلهم في نزاع أهلي سياسي أو طائفي في لبنان. فمناشدة الرئيس كميل شمعون الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور إرسال قوات أميركية لوقف تدخّل الرئيس جمال عبد الناصر في الشؤون الداخلية اللبنانية وتسعير «ثورة 1958» لم تلقَ صدى إلا بعد حصول انقلاب عسكري في العراق في 14 تموز أطاح الملكية تحت شعار حكم شيوعي موال للناصرية. وفي حصيلة تقويم أجراه الموفد الأميركي الخاص إلى لبنان روبرت مورفي في تموز سنتذاك مع السفير الأميركي روبرت ماكلينتوك أن «ثورة 1958» شأن داخلي بين اللبنانيين لا علاقة للشيوعية الدولية أو لأي تدخّل خارجي به. وهو كان يرعى تسوية أميركية ـــــ مصرية قادت إلى خلافة قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب، لشمعون في رئاسة الجمهورية. وانسحب الجنود الأميركيون بعدما ضمنوا استقرار النظامين اللبناني والأردني من آثار الانقلاب في العراق، وكانوا قد أكدوا أن نزولهم على شاطئ الأوزاعي لم يستهدف معارضي شمعون، وحرصوا على الانتشار في مناطق بعيدة عن سيطرة «المقاومة الشعبية».
الأمر نفسه تكرّر عام 1982 عندما نزل جنود أميركيون وفرنسيون وإيطاليون في مرفأ بيروت في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي وعملوا على إجلاء ألوف من المقاتلين الفلسطينيين إلى خارج لبنان، وغادر الجنود فور إنجازهم مهمتهم من غير أن يبدوا معنيين بنزاع كان قائماً حينذاك بين «الجبهة اللبنانية» و«الحركة الوطنية» وحلفائها على انتخاب قائد «القوات اللبنانية» بشير الجميل رئيساً للجمهورية. ولم تعد القوة المتعددة الجنسية إلى بيروت إلا بعد حصول مجزرة صبرا وشاتيلا ببعديها الإسرائيلي والفلسطيني.
وهي أيضاً حال الدور الدبلوماسي الأميركي بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في 12 تموز. وحيث نجحت واشنطن في إصدار القرار 1701 الذي نشر الجيش اللبناني في الجنوب ضماناً لاستقرار «الخط الأزرق» مع إسرائيل، أخفقت في إقناع حلفائها الفرنسيين والإيطاليين والبريطانيين والبلجيكيين والإسبان والالمان في إرسال وحدات عسكرية إلى الجنوب اللبناني بدون ضمانات جدّية مباشرة من سوريا، و«حزب الله»، تحديداً خشية وقوع الجنود الدوليين في فكه. كان المقصود بذلك أن القوة الدولية معنية بتطبيق القرار 1701، لا بالسجال الحاد والمتفاقم الدائر بين الحكومة اللبنانية و«حزب الله» على سلاح المقاومة.