جان عزيز
ترسم أوساط دبلوماسية عربية صورة غنية في تعقيداتها وتعدديتها، للاهتمام العربي بالوضع اللبناني. وتوجز بدءاً بالتسليم بأن العناية العربية الجدية بقضايا بيروت موقّعة على محور الثنائي الرياض ــ القاهرة.
وتسارع الأوساط نفسها الى التأكيد أن ثمة مسافة ملحوظة وواضحة بين الموقفين السعودي والمصري، لا بد من الإشارة إليها والتوقف عندها. وتشرح أن السبب الرئيسي للتمايز بين القاهرة والرياض حيال الوضع اللبناني، يعود الى خلفيات كل منهما ودوافعه التي تحدد سياساته.
فالسعودية تعيش اليوم هاجس استقرار نظامها، وهذا الهاجس متركّز حول حلقات عدة، منها ما هو إقليمي، ومنها ما هو «جواري»، ومنها ما هو داخلي سعودي، ومنها ما هو أخيراً داخل الداخل. ففي الحلقة الرابعة الأخيرة، ثمة نظام في الرياض يعيش بين ثمانينيين اثنين لا ثالث لهما في تراتبية الحكم. وجاء إلغاء منصب النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ليقرّ بهذا الواقع وليفتح باب الصراع على هذا المركز بين عشرات الطامحين، وهو ما حاولت آلية البيعة المعلن عنها أخيراً تنظيمه وضبطه من دون نتيجة حاسمة حتى اللحظة.
أما على مستوى حلقة الداخل السعودي، فثمة 5 ملايين شيعي في المنطقة الشرقية، بدأوا يخرجون من قمقم «المطاوعة»، ليرسموا لداخل تلك البلاد صورة المجتمع المتعدد في ظل السلطة الأحادية الموناركية المتشددة. ويتفاعل هذا الداخل أكثر مع حلقة الجوار، الممتد من العراق الى الكويت والأردن والبحرين نفسها، حيث جاءت نتائج أمس لتؤكد اكتساح شيعة المنامة 30 مقعداً نيابياً من أصل 40. ويتفاعل الهاجس السعودي النظامي أخيراً، مع الحلقة الإقليمية الواسعة، التي تحمل تحت عناوين المأزق العراقي والملف النووي الإيراني، والقضية الفلسطينية، ومستقبل الوضعين السوري واللبناني، كل مكونات الحديث الأردني قبل 3 سنوات عن الذعر من «الهلال الشيعي».
على ضوء هذه الخلفيات كلها، نفهم العناية السعودية بالوضع اللبناني، ونفهم تشددها وتصلّبها حيال طروحات المعارضة، ودعمها المطلق للفريق الأكثري. فبهذا المعنى يضحي الموقف السعودي في بيروت ومن قضاياها، موقفاً سعودياً داخلياً، بدوافع وأغراض داخلية، وبخلفية «دواخل» العائلة والبلد والجوار والإقليم.
إلا أن الوضع المصري مختلف كلياً. وهذا الاختلاف يظهر أكثر لبنانياً. فالمقاربة المصرية للقضايا اللبنانية لا تمثّل عامل ضغط على نظام القاهرة، ولا هي نتيجة لضغط ما في داخله، ولا هي تلامس مسألة وطنية مصرية طائفية أو مذهبية، ولا تؤثر في أزمات مجاورة لمصر قادرة على التفاعل داخل القاهرة، ولا تتحكم في المدى الإقليمي الأوسع الذي تتطلع مصر الى مقاربته.
لذلك، تجزم الأوساط نفسها أن السياسة المصرية في لبنان كانت دائماً ولا تزال، على مسافة واحدة من جميع الأطراف، أياً كانت محاولات البعض لتصويرها على أنها لمصلحته، وأياً كانت انطباعات ما لدى البعض الآخر بأنها على حسابه. حتى الكلام الصادر عن الرئيس المصري حسني مبارك مطلع الصيف الماضي عن أوضاع الشيعة العرب، كان واضحاً أن سياقه لا يعني لبنان إطلاقاً، وهذا ما حرص المصريون على إيضاحه لجميع المرجعيات الشيعية في بيروت.
ولذلك تحرص هذه الأوساط على إعادة قراءة تطورات العاصمة اللبنانية في الأيام الخمسة الماضية بدقة. فتذكّر بأن رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة هو من اتصل بالرئيس مبارك مساء الجمعة الماضية بعد انطلاق تحرك المعارضة اللبنانية لا العكس. وحاول السنيورة الطلب من الرئيس المصري اتخاذ مواقف تبدو كأنها دعم لفريقه. إلا أن الأمر لم يحصل. فاكتفى بالوساطة لفك الحصار عن مقر السنيورة. وعلى هذا الأساس صار الاتصال بين مبارك والرئيس نبيه بري، وتلته زيارة السفير المصري في بيروت حسين ضرار الى عين التينة.
وفي اليوم التالي، حرص مبارك عقب استقباله وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، على تأكيد تمايزه عن الموقف السعودي، عبر تحذيره من أي تدويل للأزمة اللبنانية، وهذا التمايز لا يفهم إلا مقارنة بموقف مسؤول أمني سعودي قبل أيام، حول استعداد الرياض للتوغل في داخل العراق، في حال حصول تطورات هناك تعتبرها سلبية حيالها. وهذا ما قصده الرئيس المصري في التحذير ممن قد يتخذون من التظاهرات المعارضة ذريعة لتدخلاتهم الخارجية، وهو موقف، تؤكد الأوساط نفسها، لا يعني إطلاقاً تسجيل موقف مصري مناهض لتحرك المعارضة اللبنانية في حد ذاته.
وتخلص هذه الأوساط الى التأكيد أن القاهرة كانت وستظل في الموقف الوسطي في لبنان، صديقة للجميع وساعية الى خير الجميع. وهذا مقتضى أساسي لأداء الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى دوره. وهذا ما سيتجلى في الأيام المقبلة، بعد جوجلة النتائج النهائية لزيارة موسى أمس. وتتوقع الأوساط نفسها أن يلي هذه الخطوة ــ في حال تقويمها إيجابياً ــ مبادرة مصرية مباشرة حيال بيروت، يتولاها وزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط، أو مدير مخابراتها العامة اللواء عمر سليمان مباشرة، لضمان حل يخرج الجميع من المأزق الراهن، وهو حل سيؤكد حياد مصر الإيجابي حيال جميع الأفرقاء اللبنانيين، والتزامها المصلحة اللبنانية العامة في آن واحد. لكن الأكيد أن الحل المطلوب لم ينضج بعد.