ج. عزيز
ستة أشهر إلاّ ستة أيام، هي فترة الحبل التي أمضتها “ثوابت الكنيسة المارونية”، التي أعلنت بكركي عن ولادتها أمس.
القصة بدأت فعلياً في 12 حزيران الماضي، يوم أعلنت البطريركية المارونية ختام مجمعها العام، بعد 3 أعوام كاملة على انطلاقه. في ذلك النهار صدرت من الصرح النصوص المجمعية الكاملة، وبينها نص “الورقة السياسية” تحت عنوان “الكنيسة ولبنان”... فبدأت المشكلة.
المتابعون لدقائق المجمع وتفاصيله، يشرحون أن النص السياسي المذكور كان قد خضع منذ حزيران 2003، تاريخ الدورة الأولى للمجمع، ومن ثم في دورتي تشرين الأول 2004 وأيلول 2005، لتعديلات متتالية، من دون جدوى. ففي جلسة التصويت الأخيرة، سقط النص، وانتهى أول مجمع ماروني منذ العام 1736، من دون وثيقة سياسية. بعد أيلول 2005، في ظروف معروفة من المعنيين بثوانيها، وهي ظروف يعدون بالعودة إلى خفاياها وأسرارها بالتفصيل لاحقاً، تغيّرت الورقة السياسية، بعيداً عن المجمع وآبائه والمشاركين فيه. أعيدت صياغتها، حوّرت قراءتها الأساسية، أضيف إليها اسم سياسي، وجهت انتقادات إلى قيادات مسيحية راحلة وحقبات مسيحية تأسيسية، خرجت عن المنطق السياسي المسيحي المركزي، قبل أن تضم إلى نصوص المجمع النهائية، من دون التصويت عليها، إذ إن دورة المجمع الأخيرة كانت قد انتهت.
بعد ساعات على صدور النص، انطلقت حملة مفاجئة من وسائل إعلام السلطة كافة، تسوّق “الموقف السياسي الحاسم” لبكركي، وتصنّفه في خانة التأييد لفريق السلطة. وعلى مدى أيام تنامت الحملة واتضحت أهدافها، بعدما شملت معظم أركان السلطة من غير المسيحيين.
عند هذا الحد بدأت “قضية النص السياسي” تتفاعل لدى المعنيين. كيف انتهى إلى ما انتهى إليه؟ من؟ وأين؟ ومتى؟ ولماذا؟ وبدأت تظهر الأسرار وتزداد الاعتراضات وترتفع الأصوات المطالبة بالتصحيح... فكانت بداية التفكير في وثيقة ثانية.
على مدى أشهر كان العمل جارياً بصمت على مسوّدة “الثوابت”. أوراق عدة قدمت أو طلبت، من دون الكشف عن الهدف منها. فريق من العلمانيين شارك، أحزاب وتيارات سياسية اقترح عليها تقديم أفكار، وظلت الجوجلة في حلقة بكركوية ضيقة.
ويعتقد مطّلعون أن الولادة لم تكن محددة سلفاً في هذه الفترة بالذات. غير أن تطوراً آخر أدّى الى تسريعها. ففي 21 تشرين الثاني الماضي اغتيل الشهيد بيار الجميل. وفي خلال الساعات التالية انكشف الوضع المسيحي على أعمال عنف استهدفت فريقاً سياسياً أساسياً، كما على ثقافة حقد وإلغاء ذكّرت بمآسٍ ماضية. هذا الواقع دفع أحد الأساقفة إلى القيام بسلسلة لقاءات واتصالات، سعياً إلى ورقة أخرى، لا علاقة لها بورقة “الثوابت”، تحاول تكريس ميثاق شرف سياسي مسيحي.
فجأة تعددت الأوراق، تضاعفت البنود والشروط المتبادلة، وتعقدت المساعي. عندها حسم سيد الصرح الموقف: لا لزوم لهذه الورقة المستجدّة. أودعوا بكركي أوراقكم المختلفة. والمحصّلة تسريع ولادة الوثيقة الأولى.
فعلياً، ماذا قالت الكنيسة المارونية أمس؟ إنه “مانيفستو” كامل لحزب واحد اسمه لبنان. أول الشرعة المتجددة، صرخة مسيحية حول حق المسيحيين، وبكركي خصوصاً، في الوجود والتدخل والشراكة والموقف والرأي، في هذا الوطن. “نحن هنا، ليس لبنان بفريقين: سنّة وشيعة”. هكذا تبدو المقدمة: فترة حرجة من تاريخ اللبنانيين والموارنة، أسئلة عن المصير، تهميش دور المسيحيين في الدولة، وتذكير بدور الكنيسة المارونية في بناء لبنان ورد الاجتياحات والاحتلالات.
بعد هذه الصرخة، يعلن المانيفستو الماروني، النقاط السبع الجديدة، لا بل البنيوية الأصيلة: الحرية بسائر أبعادها، العيش المشترك على أساس “المساواة” التي من دونها “نزع صفة شرعية”، الديموقراطية التوافقية عبر “مشاركة متوازنة” في “المجتمع اللبناني التعددي”، نهائية الكيان اللبناني، التمسك بقرارات الشرعية الدولية، الحفاظ على الدولة، والأهم أخيراً تقديم موقف واضح للكنيسة من اتفاق الطائف، يؤكد على ضرورة إدخال تعديلات عليه، من باب “توضيح ما زال غامضاً فيه، وتصحيح الشوائب”.
ينتهي المانيفستو بخطة عمل واضحة، تشكل في مجملها برنامج بكركي للخروج من المأزق الراهن، وفق الترتيب الزمني الآتي: إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي، تأليف حكومة وفاق، وفي حال تعذرها، حكومة مستقلين مهمتها وضع قانون انتخابات على أساس الدوائر الصغرى، ثم إجراء انتخابات نيابية مبكرة. يلي ذلك انتخاب رئيس جديد للجمهورية لتكون المرحلة الأخيرة نزع السلاح من كل جهة غير الدولة.
انقلاب بطريركي سجل أمس، بل استكمال لموقف ثابت. ففي مستهل عهد الوصاية قال سيد الصرح مرة: “إذا خيّرنا بين الحرية والتعايش، اخترنا الحرية”. بعد 15 عاماً من دفاعه عنها وإنجازها كاملة، بات صاحب “مجد لبنان” يدرك كيف يرفض ابتزاز العيش المشترك من دون حرية، وبات يعرف كيف يفرض الاثنين معاً، شرعة تأسيس دائم لوطن منشود أبداً.