جان عزيز
قبل الكلام الخطير المنقول عن قائد الجيش أمس، وقبل زيارة الأخير لبكركي يوم الأحد الماضي يرافقه مدير الاستخبارات، كانت جهات سياسية ترصد مؤشرات أكثر من مقلقة، عسكرياً وأمنياً، بعضها يعود الى أسابيع، وبعضها الآخر يعود الى ساعات مضت، وجلّها يدعو الى أشد الحذر.
لماذا تحدث العماد ميشال سليمان أمس عن «خطورة استمرار الوضع الراهن»؟ ولماذا أشار الى أن «الجيش يتمتع بمنعة قوية لمنع أي مساس بالسلم الأهلي، ولكن تنقّل الفتنة في المناطق على قاعدة الانقسام السياسي الحاصل وتحوّل الصراع الى مواجهات، قد يضعف منعة المؤسسة، وتالياً يضعف الوطن وأمن المواطن إذا ضعفت منعة المؤسسة»؟
الجهات السياسية المعنية أشارت الى ان هذا الكلام المنذر، لا يفهم إلا في ضوء سلسلة من الحقائق المكتومة والأسرار، أبرزها الآتي:
1 ــ على رغم الحديث عن الجهوزية الكاملة للمؤسسة العسكرية وقدرتها على مواجهة التطورات الراهنة، ثمة معطيات على الأرض تبدلت منذ 72 ساعة، ذلك ان القوى الأمنية والعسكرية التي كانت مرصودة لحفظ أمن التحرك السلمي المعارض في وسط بيروت، لم تعد هي نفسها كافية لحفظ أمن هذا التحرك في مواجهة سلسلة الاستفزازات المنهجية المتنقلة بين العاصمة والمناطق. وهو ما جعل قيادة الجيش تتخذ خطوات استثنائية عرف منها ما يلي:
ــ نقل كتيبة مشاة من اللواء الثاني المنتشر جنوباً الى بيروت.
ــ نقل كتيبتي مشاة من كل من اللواءين الأول والثامن المنتشرين بقاعاً، الى العاصمة وجوارها أيضاً.
ــ نقل قطع من أفواج التدخل المنتشرة في مناطق بعلبك الهرمل واستبدالها بقطع من معهد التعليم.
ــ تجميد الدروس في المدرسة الحربية، استعداداً ربما لتشكيل التلامذة العسكريين للخدمة حيث تدعو الحاجة.
وتشرح الجهات نفسها ان هذا «الاقتطاع» قد يتحول الى تأثير سلبي، إذا ما استمر طويلاً، أو أصبح دائماً. ذلك ان اللواء الواحد يتضمن فعلياً 3 كتائب مشاة، وبالتالي الحركة المستجدة طاولت ثلث قوته الفعلية، مع ما يمكن هذا النقص أن يخلّفه من مخاطر «داخلية» في بعض المناطق.
2 ــ تشير الجهات السياسية المعنية نفسها الى ان العديد الفعلي للقوى المتحركة في الجيش، بمعزل عن شريحة الضباط، هو نحو 36 ألف عنصر، وهم موزعون بين نحو 10 آلاف ونيف من المسييحيين بكل مذاهبهم، ومثلهم من الشيعة، ونحو 15 ألف من العناصر السنّة. وهو واقع لافت في ظل الأوضاع الراهنة، علماً أنه قديم وتقليدي وغير مستجد في المؤسسة العسكرية.
3 ــ توقفت الجهات نفسها أمام معلومات مؤكدة عن كون أحد التيارات السياسية الأساسية المشاركة في السلطة، قد عمد منذ أشهر الى «التعاون» مع موظف غير مدني سابق شهير، كان قد أدى عام 1976 دوراً بارزاً في إنشاء «جيش» خاص داخل المؤسسة العسكرية. وتشير معلومات هذه الجهات أيضاً الى ان «التيار» المقصود كلّف هذا «القائد» المتقاعد، الإشراف على تطويع عناصر من بعض المناطق المحددة، ضمن أسلاك رسمية غير مدنية، وشملت مهمته اختيارهم وتسهيل انتسابهم ومتابعتهم لاحقاً لمصلحة التيار السياسي الذي يعمل لديه. وأعربت الجهات نفسها عن قلقها حيال «الماضي التقسيمي» للشخص المذكور، مستغربة الاستعانة بخبراته في هذا التوقيت وفي هذا المجال بالذات.
4 ــ وتوقفت الجهات نفسها عند ظهور مسؤول أمني بارز، وببزته العسكرية، ضمن المجموعة التي حضرت يوم الجمعة الماضي في السرايا الكبيرة، للصلاة خلف المفتي الشيخ محمد رشيد قباني. ورأت في الخطوة خروجاً عن الأعراف العسكرية المتبعة في الأحوال والظروف العادية، فكيف بها في ظل تساؤلات عميقة حيال خطوة المفتي المتزامنة مع إطلاق تحرك المعارضة، كما في ظل التساؤلات عن المسؤول الأمني نفسه، التي رافقت تعيينه في مركزه منذ مطلع هذا العام.
ماذا تعني هذه الملاحظات؟ وما هي ترجمتها باللغة السياسية الواضحة والصريحة؟
بكل بساطة يجيب المعنيون، ثمة تتبّع منذ أكثر من سنة، لمحاولة استدراج «رعاية» دولية عسكرية مباشرة للوضع اللبناني بكامله، من عكار الى الناقورة، ومن مرفقي بيروت الى معابر البقاع. وهذه المحاولة اتخذت حتى اللحظة أشكالاً عدة، حتى إن شركة «اللوبيينغ» الأميركية التي لُزّمت عقد التسويق لذلك باتت معروفة في واشنطن. وهي شركة مماثلة، لكن منافسة، لشركة «هيل إند نولتون» التي لُزّمت حملة التسويق لعملية ضرب العراق، كما لشركة «رودر فين غلوبال بابليك أفيرز»، التي لُزّمت حملة التسويق لعملية كوسوفو.
والى جانب الأنشطة التي تقوم بها هذه الشركة أميركياً، تعرب الجهات نفسها عن خوفها وقلقها من ان يكون ثمة شق لبناني داخلي يُعمل عليه، وخصوصاً لجهة إضعاف المؤسسات العسكرية، عبر زيادة ضغط المهمات عليها من الخارج، أو عبر اختراقها من الداخل، إضافة الى افتعال سلسلة استفزازات أمنية وإشكالات متنقلة، تؤدي لاحقاً الى زعزعة أمنية شاملة، في ظل عجز رسمي عن معالجتها وضبطها، ما يبرر اللجوء الرسمي الى «رعاية» دولية عسكرية ملزمة.
قائد الجيش حذر من «خطورة» الوضع، وبكركي باتت تعرف أكثر، يبقى أن تتوقف المؤشرات المذكورة، أو أن تكون هواجس الجهات القلقة مغلوطة، أو أن يكون عقد الشركة الأميركية من النوع التجاري لسلعة استهلاكية، لا تقتل وطناً.