أنطوان سعد
ليس من قدر بكركي أن تبقى في منأى عن الأحداث اللبنانية وتداعياتها، لأن أي تهديد للكيان اللبناني ولدوره يجعلها تبادر، كما حصل في أكثر من منعطف دقيق من تاريخ لبنان، ولأنها في المعنى الحقيقي، لا المجازي، «أم الصبي» الذي يحمل اسم لبنان، المهدد فعلياً على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية نتيجة نزاعات تتجاذبه بين طرفين محليين، ومن ورائهما آخران إقليميان وآخران دوليان.
وإضافة الى الاندفاع التلقائي للبطريركية المارونية لدى شعورها بالخطر على الكيان، ما برحت الأوساط المسيحية، بخاصة تلك غير المؤيدة للعماد ميشال عون أو لمسيحيي 14 آذار، تطلب من بكركي تحديد ثوابتها وموقفها من المسائل المطروحة على بساط البحث، إذ إن الحملات الإعلامية التصعيدية التي يجردها طرفا النزاع، وما يرافقها من تأويلات لموقف بكركي وانحيازه إلى هذا الفريق أو ذاك، جعلت الرأي العام المسيحي يشعر بأنه على هامش الأحداث الخطيرة التي تهز البلاد.
انطلاقاً من ذلك، شكّل مجلس المطارنة الموارنة في جلسته المنعقدة في الرابع من تشرين الأول لجنة من ثلاثة أساقفة هم سمير مظلوم ويوسف بشارة وبولس مطر لإعداد وثيقة تشرح بالتفصيل موقف الكنيسة من قضايا الشأن العام الراهنة، وتقترح آلية عملية للخروج من المأزق الذي كان يزداد حراجة في شكل مطّرد.
وعقدت اللجنة الثلاثية ثمانية اجتماعات واطلعت على وجهات النظر المختلفة من المسائل الخلافية من خلال لقاءات مع مسؤولين في الأحزاب والتيارات السياسية المسيحية وغير المسيحية الأساسية. وعندما تبلورت الأفكار الأساسية لدى هذه اللجنة، ارتأت أن تقدمها في بيان مقتضب يقتصر على إعلان موقف الكنيسة من القضايا المطروحة واقتراح نقطة انطلاق لآلية عمل يمكن أن تتبلور وتتطور بحسب التطبيق. وقد فضّلت اللجنة البيان المقتضب لأن الشرح المطوّل يقتضي له مساحة كبيرة من الصفحات ولأن المطارنة الثلاثة ارتأوا أن يتركوا للفرقاء السياسيين نصاً مرناً يمكّنهم من الدخول في التفاصيل من الزاوية التي يرتاحون إليها.
وفي هذا الإطار، يقول مصدر في اللجنة الثلاثية للأخبار إن «الوثيقة الصادرة عن مجلس المطارنة، الأربعاء الماضي، لا يمكن أن تنطوي على كل التفاصيل ولا بد من الإفساح في المجال أمام الاتصالات السياسية واللقاءات بين الطرفين المتنازعين لبلورة المخارج والاتفاق على الترتيب الأولي للمسائل المطروحة. ففي كلامنا على إجراء انتخابات نيابية مبكرة لم نحدد في شكل قاطع وجازم ما إذا كنا نفضّل إجراءها قبل الاستحقاق الرئاسي المبكر أم بعده. لقد رمينا عبر الوثيقة في شكل خاص إلى إخراج المواقف السياسية من جو التشنّج وتنقية الجو السياسي من المهاترات والانحدار في مستوى التخاطب. وفي تقديرنا للأمور، تشكل الدعوة الى وضع ميثاق شرف منطلقاً لحصر السجالات في الإطار السياسي الهادئ بعيداً من العنف والتصعيد الكلامي الذي لا بد من أن تكون له انعكاسات سلبية على الشارع. وكان همنا ألا يشعر أي طرف بأنه مغبون لأنه لا إمكانية لأية تسوية يشعر فيها فريق لبناني بأن حقوقه منتقصة. لقد أعلنت الكنيسة المارونية موقفها بوضوح، واعتباراً من الآن سيعرف الجميع من يلتزم ومن لا يلتزم موقف بكركي، الذي يقول جميع الأطراف إنهم ملتزمون به تاركين للرأي العام أن يحاسب نوابه والأحزاب التي تدّعي تمثيله».
ويضيف المصدر: «كما العادة، أخذ كل طرف يحاول تأويل الوثيقة وموقف الكنيسة المارونية وفق مصلحته، والتشديد على الفقرة التي تخدم مصالحه وإهمال ما يستجيب لهواجس الطرف الآخر. كل عمرهن هيك. بلغتنا من جانب بعض الجهات السياسية ردود فعل إيجابية جداً، وترحيب مبدئي من جانب قوى سياسية أخرى، ولم نتلق حتى الساعة أي رد فعل سلبي على بيان مجلس المطارنة وورقة الثوابت الوطنية التي أعلنّاها. إن اقتراح حكومة المستقلين، مع علمنا بأنه من الصعب إيجاد مستقلين تماماً في لبنان في هذه الظروف، يرمي إلى لفت نظر القوى السياسية المختلفة والرأي العام إلى أنه توجد دائماً ثغرة في الحائط المسدود، هذا إذا كنا بالفعل راغبين في التوصل إلى التهدئة وإنهاء النزاع بطريقة سلمية وديموقراطية وليس إخضاع بعضنا البعض».
وتتطلع الكنيسة المارونية بعد إعلان موقفها الواضح من كل المسائل المطروحة إلى أن تتجاوب كل القوى السياسية معه، بدءاً من الأحزاب والتيارات والشخصيات المسيحية. وهي تبدي استعدادها للمضي في ما هو أبعد من ذلك إذا تأكد لها أنه مفيد للبنان.