عرفات حجازي
ما زال الأفق مسدوداً على المعالجات، ومفتوحاً على توترات وإشكالات عنفية بدأت تشهدها العاصمة وبعض أحيائها. ولا يبدو أن أحداً من الطرفين المتصارعين في وضعية المتعب، بل هما في صدد تصعيد مواقفهما ورفع خياراتهما إلى الحد الأقصى. فالمعارضة تستعد لنقل حركتها الاحتجاجية إلى مستويات جديدة مع الإبقاء على الاعتصام المفتوح في ساحتي الشهداء ورياض الصلح، وفريق السلطة معتصم في السرايا يستقدم الوفود الشعبية في رد يومي على التحدي بالإعلان أن الحكومة شرعية ودستورية وباقية. وكل المؤشرات تفيد بأن الوضع الحالي سيطول، ولا شيء يدل على أن الأكثرية في وارد الاستسلام لضغوط الشارع والقبول بما رفضته على طاولة الحوار، أو أن المعارضة في وارد الخروج من الشارع قبل أن تحقق أبرز أهدافها بقيام حكومة وحدة وطنية.
وفي ظل الانسداد في الأفق السياسي تستمر حركة الوساطة بشقيها المحلي والعربي بحثاً عن صيغة توفّق بين الصيغ التي يطرحها الفريقان للخروج من المأزق. وتقول مصادر مطلعة إن جديداً لم يطرأ، وإن كل الأفكار لا تزال عند النقطة التي كانت فيها قبل نقل الأزمة إلى الشارع: المعارضة عند مطلبها بالثلث زائد واحد والأكثرية عند عرضها 19 - 10 - 1 أو 19 - 9 - 2، وهي صيغة تفقد الأكثرية أكثريتها في الحكومة لكنها لا تعطي الأقلية القدرة على تعطيل الحكومة واستقالتها. وتضيف المصادر أن أحدا من الوسطاء لم يتوصل بعد إلى ابتداع مخرج يعكس التوازنات القائمة ويوفّق في ترتيب الأولويات بأضلاعها الأربعة: المحكمة الدولية، حكومة الوحدة الوطنية، الانتخابات المبكرة، رئاسة الجمهورية، بحيث يفتح الباب لتجديد الحوار حول الهواجس والضمانات المتبادلة على قاعدة الشراكة الكاملة في الحكم.
ويقول دبلوماسي عربي يعمل على خط الوساطة بين الأطراف إن الجميع تساووا في المأزق وأصبحوا أسرى مواقفهم وخياراتهم، فلا أحد باستطاعته التراجع والتنازل أمام الآخر، ولا احد يمكنه أن يكمل إلى الأمام من دون أن يقع في مغامرة غير محمودة العواقب. ويعترف الدبلوماسي بأن الأزمة لو كانت في مكوّناتها محلية لما عجز اللبنانيون وقادتهم عن اجتراح حل، فالتسويات هي تقاليد الحياة السياسية في لبنان، وكل القوى تدرك أن الأزمات التي عصفت ببلدها منذ الاستقلال كانت تنتهي بصيغة لا غالب ولا مغلوب، لأن لبنان بتركيبته الدقيقة لا يحكم بغير التوافق، ولا خسارة بالكامل لطرف ولا ربح لطرف بالكامل».
ويضيف الدبلوماسي أن الأزمة «أعمق في بعدها الإقليمي والدولي، فالأطراف الداخلية لا تملك كل الأوراق لأن القوى الخارجية ليست مجرد شهود ومتفرجين، بل هم لاعبون أساسيون لهم مصالحهم وحساباتهم، وحتى الوسطاء أخرجتهم بعض مواقفهم من موقع القدرة على الفعل والتأثير والاحتفاظ بمسافة متساوية من الجميع. وقد لمس هذا الشعور الأمين العام للجامعة العربية لدى لقاءاته مع بعض قوى المعارضة».
ويتابع الدبلوماسي في تشريحه لواقع الأزمة «أن القطيعة بين المملكة العربية السعودية وسوريا والعلاقات الفاترة بين مصر وسوريا، وتمسّك دمشق بحلفها الاستراتيجي مع طهران، ساعدت في تأزيم الأوضاع وعطّلت ولادة أي حل لبناني. من هنا لم يخف موسى قلقه من تعقيدات الوضع وتداخله بالبعدين الإقليمي والدولي، ما يحول دون طرحه أية مبادرة إنقاذية لا تتوافر لها عباءة عربية بخيوط سورية - مصرية - سعودية، مع تأمين مظلة أميركية تشكل شبكة أمان لحمايتها وتطبيقها، وعلى هذا الأساس غادر لبنان تاركاً رزمة من الأفكار ليتداول بها فريقا السلطة والمعارضة في انتظار أن يعود بمبادرة محددة تحظى بموافقة الدول العربية المعنية وبجواز مرور أميركي».
وفي انتظار ما سيحمله التعريب من حلول ومعالجات، فإن الحركة السياسية الداخلية لم تتوقف، فالمعارضة بادرت إلى فتح أبواب الحوار مجدداً بعدما كانت تقول ان لا عودة إلى الحوار قبل إسقاط الحكومة، واختارت قناة سياسية سنية عبر الداعية فتحي يكن. صحيح أن المبادرة لم تنجح ولم تكن كافية لاعادة الأزمة إلى مرحلة ما قبل الشارع، لكنها دلّت على حسن نيات المعارضة ورغبتها في الانفتاح على الحلول قبل الانتقال إلى الخطوة التالية، على طريقة خطوة إلى الوراء وخطوتان إلى الأمام.
ويلفت مصدر حكومي سابق إلى أن إيجابية تحرك المعارضة مهما كانت نتائجه دلّت على أن إمكان الحوار ما زال موجوداً على رغم ضغوط الشارع وصخبه، فهناك المبادرة التي أطلقها الرئيس السابق أمين الجميل ويتابعها مع حزب الله وأطراف المعارضة، لكن اللافت للانتباه كان البرنامج السياسي الذي أطلقته بكركي في محاولة منها لاختراق جدار الأزمة. وبدا من خلال التعليقات الأوليّة أن كل الأطراف أبدت ارتياحها إلى مضمون موقف المطارنة واعتبرته أساساً جديداً يمكن البناء عليه للخروج من حال المراوحة.
ورأى المرجع الحكومي أن إعلان بكركي أخذ هواجس الأطراف وأولوياتهم في الاعتبار، فأعطى الأكثرية أولوية إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي، وأعطى المعارضة أولوية تشكيل حكومة الوفاق الوطني أو حكومة مستقلين من مهماتها الأساسية وضع قانون انتخابي عادل ومنصف يحقق صحة التمثيل على أساس الدوائر الصغرى وإجراء انتخابات جديدة وإتباعها بانتخاب رئيس جديد للجمهورية بالتوافق بين كل الأفرقاء. ويتوقع المتابعون لتطورات الوضع اللبناني أن تساهم ثوابت بكركي في دفع الجهود السياسية وتلمّس بدايات الدخول إلى حل شامل يخرج لبنان من النفق المظلم.