strong>جان دايه
لو لم يكن «الزميل» خليل الخوري من أنصار الأسماء المزدوجة للصحف اليومية من مثل «لسان الحال» و«ثمرات الفنون» و«الاتحاد العثماني» و«صدى لبنان» إلخ، لجاز القول إن هذه الجريدة «الأخبار» قد دخلت عامها الـ148، ولاحتلت رأس لائحة الدوريات السياسية في المشرق العربي. فقد أصدر صاحبنا جريدة «حديقة الأخبار» البيروتية في غرة العام 1858.
ولكن لائحة الجرائد ذات الأسماء المفردة، والمسماة «الأخبار» ليست قصيرة. في لبنان أصدر «جبر جوهر» في طرابلس العدد الأول من «الأخبار» في 25 تشرين الأول 1932، وتولى ياسر الأدهمي رئاسة تحريرها في المرحلة الأولى، ثم تفرّد بملكيتها. واستمرت في الصدور سنوات عدة. ثم انتقلت الى بيروت كي تأخذ مكانها بين الصحف الكبرى.
وفي القاهرة، أصدر الشيخ يوسف الخازن وداود بركات «الأخبار» في 29 تموز 1896. وسرعان ما تفرّد بالجريدة الشيخ يوسف، كما جرت العادة في الشراكة الصحافية عندنا. وبعد توقفها بصورة نهائية، أصدرها أمين الرافعي لتكون لسان حال الحزب الوطني. وأخيراً، أعاد الأخوان علي ومصطفى أمين إصدارها عن دار «أخبار اليوم»، وأثبتا صورة الشيخ يوسف في قاعتها الرئيسية اعترافاً بريادته.
وفي 25 كانون الأول 1953 اشترى محمد حمدان جريدتي «العنقود» لنقولا إليان والشيخ عبد الله العلايلي و«الأمة العربية» لجودت هاشم ونسيب نمر، ليتمكن من إصدار جريدة باسم «الأخبار». وبعد عام نقلت ملكيتها الى محمد سليم صباغ، الذي بدوره باعها الى شريف عبد الرحمن الأنصاري. وفي العام 1959 نقلت ملكيتها الى كمال سنو الذي باع امتيازها الى سهيل يموت ويوسف خطار الحلو. وباعتبار أنها أصبحت لسان حال الحزب الشيوعي اللبناني بدءاً من العام 1954، فهذا يعني أن الحزب الشيوعي استأجرها لمدة خمس سنوات قبل أن يشتري امتيازها.
وأصدر الصحافي العراقي الشهير روفائيل بطّي «الأخبار» في بغداد عام 1932.
وفي دمشق أصدر محمد بسيم مراد «الأخبار» عام 1941. وبعد عشر سنين أصدر «الأخبار» في دمشق أيضاً «مكتب المعلومات الأميركي». كما أصدر جان جبور «الأخبار» في ريو دي جانيرو عام 1950. وفي مدينة يافا أصدر بندلي غرابي العدد الأول من «الأخبار» في 28 كانون الثاني 1911.
وباستثناء «أخبار» مكتب المعلومات الأميركي، فإن بعض التشابه، على صعيد محاربة التدخل الأميركي والإصلاح الداخلي، يمكن رصده بسهولة بين «الأخبار» الجديدة وسائر الدوريات التي تحمل اسمها وبخاصة «الأخبار» التي أصدرها الحزب الشيوعي اللبناني. ولكن «الأخبار» التي أصدرها الشيخ يوسف الخازن في القاهرة عام 1896، بعد أن تعذّر إصدارها في بيروت بسبب الاستبداد الحميدي، تتلاقى مع سَميّتها الصادرة عام 2006، بالحجم «التابوليدي» والنهج المتميّز بتنوّع الأقلام، وتوفير هامش معقول للرأي الآخر، والابتعاد عن «صحافة يشاع ويذاع»، إضافة الى محاربة الفساد والاستبداد والتدخل الأجنبي وبخاصة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وعدم التداول بعملة اللغة الصحافية الخشبية. فماذا عن «الأخبار» اللبنانية المتمصّرة التي تشكل الحلقة الأولى في سلسلة الدوريات العربية التي يتوّج ترويساتها الاسم نفسه؟
سيرة الخازنودخل الخازن عالم الصحافة الفرنكوفونية من البوابة العريضة. في القاهرة، نشر المقالات السياسية في جريدة «Journal Du Caire». وبعد انتقاله الى باريس في العام 1916، أصبح عضواً في هيئة تحرير جريدة «Le Temps» الفرنسية. وخلال تواجده في العاصمة الفرنسية، أصدر كتيّباً بعنوان: «L,Etat Juif en Palestine» عرّبه وحقّقه وقدم له وأصدره بعنوان «الدولة اليهودية في فلسطين». في مطلع الانتداب الفرنسي (1920) عاد الخازن الى بيروت، وعيّن عضواً في اللجنة الإدارية للبنان الكبير. وانتخب نائباً عن جبل لبنان في مجالس نيابية ثلاثة منذ 1922 حتى 1932. وتميز في البرلمان، وخلال المناقشات، بظرفه وصلابته وعمق آرائه. وهذه الصفات يمكن رصدها من خلال قراءة محاضر الجلسات في تلك الحقبة الأولى من حياة البرلمان اللبناني.
وبموازاة العمل البرلماني، تابع الخازن مشواره الصحافي، فأعاد إصدار جريدة «الأرز» في العام 1921، وهي التي أصدرها الشهيدان فيليب وفريد الخازن في 15 تشرين الأول 1895. وكعادته، اشترك مع الصحافي والسياسي نعوم لبكي، في إصدار جريدة نسيبيه. وكالعادة أيضاً، فسخت الشراكة وأصبح الخازن المالك الوحيد لجريدة «الأرز».
بعد احتجاب «الأرز» لفترة طويلة، أصدر الخازن في العام 1934 جريدة «البلاد» بالاشتراك مع السياسي موسى نمور. ولم يشذ عن القاعدة، حيث استقل بالجريدة بعد وقت قصير. واستمرت «البلاد» بالصدور حتى العام 1940 حيث عطّلتها سلطة الانتداب ووضعت صاحبها في أحد الأديرة الكسروانية تحت الإقامة الجبرية، بسبب موقفه السياسي المناهض للاحتلال. ولكنه تمكن من الفرار الى تركيا، ومنها الى إيطاليا التي استقر فيها. واستأنف من العاصمة الإيطالية نشاطه السياسي والإعلامي، فكان له «حديث الجمعة» في «راديو باري» حيث انتقد الحلفاء وسياستهم في بلاد الشام وبخاصة في مساعدتهم الحركة الصهيونية لاستيطان فلسطين.
وفي 14 أيار 1944، وافته المنيّة في اغترابه القسري، وهو في الثالثة والسبعين.
ولنعد الى «الأخبار». كانت كل الدوريات المصرية تصدر في المساء. ولكن الخازن آثر إصدار جريدته في الصباح. وعندما سئل عن سر مخالفته تلك أجاب على طريقته الساخرة: «شر الصباح ولا خير المساء».

جريدة رائدة

وتميّزت «الأخبار» عن بقية الدوريات بأنها الأصغر حجماً بمعنى أنها كانت رائدة صحف التابلويد في مصر على الأقل. ولكنها من أغزر رصيفاتها «مادة بالنظر الى الأسلوب الذي توخّته في إيراد الحوادث» على حد تأكيد صاحبي مجلة «الدهور» الشيخ أمين تقي الدين وأنطون باشا الجميّل. ويوضح الجميل وتقي الدين بأن الخبر الذي تقرأه في «الأهرام» و«المقطّم» و«المؤيد» وغيرها، «لا تستنكف من معاودة قراءته، لأنك على يقين من أنك ستجد في طريقة إيجاده شيئاً جديداً». ويضيف صاحبا «الزهور» ميزة أخرى لجريدة «الأخبار» بل ميزتين: «الأولى، أنها تنشر ما لها وما عليها، تاركة لمن يكتب فيها الحرية التامة في إبداء فكره ولو جاء هذا الفكر مخالفاً لمذهبها.. والثانية أنها ذات اعتناء خاص بعنوانات أخبارها ومقالاتها، حتى لقد يجيء العنوان فيها وحده أبلغ من مقالة طويلة». ويثنّي الإمام محمد رشيد رضا صاحب «المنار» على رحرحة «الأخبار» بقوله «إن خطة (الأخبار) تظهر في ما تختاره من أقوال الصحف أكثر مما تظهر في مقالاتها الخاصة». وإذا أضفنا الى ما سبق، «براعة الكاتب ــ الخازن ــ وحسن أسلوبه في الإنشاء» على حد تأكيد الشيخ إبراهيم اليازجي، أدركنا سرّ انتشارها الواسع، نسبياً. ويقول شريك الخازن، داود بركات، حول موضوع الانتشار: «كان عندنا 2000 مشترك، وكنا نبيع في اليوم 800 نسخة، وكان ذلك عدداً عظيماً في حينه». يضيف رئيس تحرير «الأهرام» لاحقاً: «ولكني اختلفت مع شريكي سنة 1899، فتركت الصحافة، وفكرت أن أعود الى التجارة».
لم يوضح بركات سبب الخلاف ومصدره. ولكن انفراط الشراكة بين الخازن وجميع شركائه في كل الدوريات التي أصدرها، دون استثناء، يدفع الى الاعتقاد بأن سبب الخلاف بين الخازن من جهة وبركات ونمور ولبكي من جهة مقابلة، يعود الى الفارس الخازني وليس الى الفرسان الثلاثة. ويعزز هذا الحكم، الخازن نفسه الذي وصف نفسه في إحدى مقالات «الأخبار» على النحو التالي: «لي صديق شاذ الأخلاق، غريب الأطوار، قلّما يتّفق رأيه مع رأيك، أو يوافق خاطره خاطرك. ولذلك تراه في معظم الأحيان منفرداً في رأيه، مخالفاً للجمهور في حكمه. وليس السبب في ذلك كونه يحب المخالفة والمعارضة، بل كونه ينظر الى المسائل من غير الجانب الذي اعتاد معظم الناس أن ينظر إليها منه».
ولكن افتتاحية 7 كانون الثاني 1902 لا تخالف الجمهور بل المحتلين والمتعاونين معهم «من الكبراء والعظماء الذين رضوا بما ألقمهم الانكليز من فضلات الطعام وفتات الموائد» بخلاف أكثرية المصريين «الذين لا يطمعون بعظم أجرد ومرق قليل الدسم».

مقالات ومواقف

وتحت عنوان «خطرات أفكار» نشر الخازن مقالة طريفة في «الأخبار» بتاريخ 13 نيسان 1902 حول تضامن «رجال الاحتلال ولصوص البلاد» في سرقة الثيران الأصيلة التي كان الخديوي مولعاً بجمعها». لذلك، حين رفع أمر السرقات الى «وكيل المديرية في طنطا، لم يجسر أن يحرّك ساكناً». فالوكيل لم ينسَ ما فعله «رجال الاحتلال بسعادة محافظنا يوم كان وكيلاً للحربية». وختم بالقول: «إذا ظلت الحال على هذا المنوال، فلا يمضي القليل من الزمان حتى لا يبقى بمعيّة الأمير صديق يرتكن إليه ولا في خاصته ثور يفلح عليه». وإذا كان الخازن حصة الخديوي ضد المحتلين الانكليز وأعوانهم من المصريين، فإنه يصبح حصة الشعب حين يبدّد الخديوي المال العام. وتحت العنوان الدائم «مقاطر أقلام» يقول الخازن في افتتاحية 4 أيار 1902: «إذا كان لا يجوز للمرء أن يبدّد ماله الخاص الموروث عن آبائه وأجداده، فما بالكم سكوت عن هذا المال الذي بدّد بلا رويّة ولا حساب وهو مال الجمهور. ومنزلة الجمهور من الحاكم منزلة اليتيم القاصر من الوصيّ».
وعندما اندلع حريق هائل في «ميت غمر» وحوّلها الى «رمّة سوداء» لم تكن ردة فعل الخديوي متناسبة مع ولاء المصريين وفظاعة النكبة. فما كان من الخازن إلا أن نشر افتتاحية في 12 أيار 1902، أكد فيها بأن «أقل ما ينتظر من الأمير في هذا الموقف، أن يظهر بزيارة ميت غمر ومواساة سكانها، لأنه شريك الأمة في مصابها، وأنه ذاكر في حافظته الخدمات الجليلة التي أتاها الشعب المصري نحو آبائه وأجداده». ولو فعل الخديوي ذلك، فإنه «يزيد عرى الائتلاف بين الحاكم والشعب توثّقاً وإحكاماً، وهو أسطع برهان يأتيه أمراء الشرق ليثبتوا أنهم قد أدركوا حقيقة الروابط الموجودة بين الأمير والرعية، وهو أحسن وقعاً في قلوب الجمهور من مواساة الأمير لبعض الأعيان والوجهاء يوم ينكبون بأفراد عائلتهم».
وحرص رئيس تحرير «الأخبار» أن يكون موضوعياً في نقده. فقد خصّص افتتاحية 20 كانون الثاني 1902 لمجلة «المقتطف» العلمية التي كان يصدرها فارس نمر وشاهين مكاريس ويعقوب صروف. نوّه الخازن على سبيل التفكّه بأن أصحاب «المقتطف» ظلوا يصدرونها «مدة من الزمن باسم (جريدة) حتى درجت لفظة مجلة وشاع استعمالها فاستعملوها. وهي من الألفاظ التي كان السابق الى استعمالها في هذا المعنى شيخنا اللغوي الشهير صاحب مجلة الضياء». وانتقل الى الجدية، فأكد أن «المقتطف» «جاري مجرى العلم في بلادنا، فمضت عليه مدة ومباحثه مما يفيد العامة في بلاد لا يزال أبناؤها في مهد من العلم جديد. كأن يبسّط لهم مبادئ العلوم التي لا يبلغها إلا الذين تيسّر لهم الدخول في المدارس العالية».
ولم يتردد الخازن من نقد أصدقائه في الافتتاحية نفسها حين وصل الى باب «نقد الكتب والمطبوعات الحديثة» في «المقتطف»، لأنهم اكتفوا بالقول عن الكتاب الجديد أنه «لأديب فاضل، ومطبوع على ورق جميل»، ودعوا الى «إقبال الناس عليه». فالذي كان ينتظره القراء من «مجلة في مقام المقتطف، أن تنقد الكتاب وتلخّص رأي صاحبه وتضيف إليه آراء غيره ممن كتب في مثل ذاك الموضوع، حتى يعرف القارئ منزلة الكتاب والكاتب، فيقبل عليه أو يحجم».
ولم يكتف صاحب «الأخبار» بتخصيص مساحة كبيرة في جريدته عادة نشر ما تنشره الصحف الأخرى على حد تنويه محمد رشيد رضا، بل هو كان يتنازل عن عرش الافتتاحية لبعض زملائه. وعلى سبيل المثال، فقد كتب إبراهيم غانم افتتاحية 26 آذار 1902 المعنونة «تكريم الرجال العظام في الدنيا». وحول «تكريم» الشرقيين لأبطالهم، ضرب المثل التالي: «جرح أحد أبطال لبنان سنة 1840 في دفاعه عن الدولة والوطن جرحاً بليغاً وقتل بجانبه ابن شقيقة له، فعاده وهو على فراش الأوجاع الحاكم الوطني المتولّي حكومة الجبل فكافأه ونشّطه بهذا الكلام: ماذا تريد أن أفعل لك؟ أنا ما قلت لك أن تنجرح! أرأيت الى ما أوصلك إليه جنونك؟ إنك جرحت نفسك وقتلت ابن اختك». وتساءل غانم تعليقاً على ذلك: «ليت شعري! أبمثل هذا تكافأ الشجاعة؟ أوبمثل هذا الكلام يعوّض عن الدم المهراق دفاعاً عن الوطن؟ أوبمثل هذا التنشيط نرجو أن يضارع رجالنا رجال الغرب؟». وكان الكاتب قد أبدى إعجابه بشعب البوير الذي صمد بوجه الانكليز، ليس فقط لأنه شبّ على «نقل السلاح والتدرّب في القتال» وكان على رأسه القائد العظيم «دي وت» بل أيضاً لأن زوجة هذا القائد «كانت تقول بأنها تفضل بأن تراه ميتاً على أن تراه مستسلماً للانكليز». ولم تكن زوجة القائد أشجع من زوجات وشقيقات وأمهات المقاومين البويريين. فلو صرخن وولولن «كلما علمن بالمخاطر المحدقة برجالهن، ونظرن الى الدمار الذي جلبته هذه الحرب، لما كان البوير ثبتوا في القتال الى هذا الحين أمام انكلترا، ولما كان المؤرخون يدوّنون اليوم اسم (دي وت) بين أعظم أبطال العالم ويشبّهونه بهنيبعل القائد القرطجني المشهور».