أنسي الحاج
في بعض المجتمعات تبدو الحرب الأهليّة ظاهرة مستمرّة. حيناً ساخنة وحيناً باردة. تارة عبر هذه الطوائف وطوراً عبر تلك. لبنان هو من هذه المجتمعات.
مثل البراكين الموسميّة التحرّك.
ويبدو كأن لا أحد يريد الخلاص من هذا التهديد. ولا حتّى الضحايا. إنّه أشبه بالإدمان.
ويغدو البحث عن أسلوب للتعايش معه بأدنى خسائر ممكنة هو الحل الوحيد المتاح.
العيش عند سفح البركان.

لنتخيّل في وسط بيروت ميداناً واسعاً بلا ضجّة. ناس بالألوف واقفون أو جالسون في صمت. غابة من السّرْو. يوم يومان عشرة. لا صوت إلاّ هدير السكون. المشهد سيكون أشدّ تأثيراً. محلّ المنبر شاشة ضخمة تعرض أفلاماً خارج الزمن. اعتصام ضدّ الوقت، ضدّ ملوك الوقت، ضد الطوائف، ضد الدول، ضد الحكومة والمعارضة، ضد الصحافة، ضد التلفزيون والإذاعة، ضد الضجيج، ضدّ هذه الحياة. لا حركة سلميّة فقط بل عَدَمُ حركة. لا «لا عنف» فقط بل لا حِسّ. عَدَمٌ في وجه وجود. عَدَمٌ مفلوق يحتجّ على وجود لا يُحْتَمَل.
اعتصام ضد التمثيليّات.

الجميع يعرف ولا لزوم للشرح. والجميع في قبضة الخوف. الخوف الذي صار مبتذلاً عديم الهيبة. خوف معلوك وفارغ. كَبُرَتْ عينا لبنان من الخوف حتى صار كلّه عينين. الجار يخاف الجار والبلد يخاف العالم. من يقتلني، يسأل اللبناني، أخي أم عدوّي؟ لا أخ لك، يقول له الحاضر. عينا لبنان من العَتَب صارتا قمرين وراء غيمتين. من الوجع، أعمق من الموت. من الفَزَع، أبعد من الليل. انزل في خوفكَ بعد يا لبنان، تحت القاع قاع. تحت الجحيم جحيم. تحت عينيك رعاة عند الصيّادين.

لو نستطيع أن نحتفظ بنتائج التجارب! لو تُضاف تلك الخبرة! لو يتعلّم بعضنا من بعض!
لو يتعلّم بعضُنا من نَفْسه!
القوّة الشيعيّة اليوم. قبلها السنيّة. قبلهما المارونيّة. ومن قبل، الدرزيّة. كلّ نجم من هذه النجوم دفع ضريبة صعوده. صعود بالدور. اليوم النجم الشيعي. عوض أن يُسْتَوعب في الجسد اللبناني رافداً نهضويّاً، يُسْتَعدى. عوض أن يتنازل ليندمج ولا يُخيف، يتحدّى، يتشبّث، يَعْرف قوّته. لكن البلد الصغير يحتاج إلى سدود تُنظّم طاقاته لا إلى استعراض في التدفّق واحدنا فوق الآخر.
الزخم اليوم شيعيّ. الاعتراف بهذه الحقيقة خدمة للبنان. والحاجة هي إلى احتضان هذا الزخم وإلى أن يقوم هذا الزخم باحتضان الآخرين. مرّة أخرى، وبكلّ سذاجة، الحلّ في فعل محبّة.
وفي المجازفة بإغضاب القوى الخارجيّة التي لم يلتئم شمل اللبنانيين ولا مرّة في تاريخهم إلاّ على مضض منها.

ما زلنا نعيش بالقوّة، وعلى شفير السقوط. كالمُداري نفسه بالأوهام. وما نَنْعَم به بين الحين والحين من ازدهار وحريّة وطمأنينة لا يتعدّى الوجود بين هلالين.
منذ البداية، لا منذ 1975 فقط، ولا منذ الصليبيّين فقط، بل منذ أوائل الفينيقيّين. بالزور. أمل هنا أو هناك بالزور. استقلال بالزور. امتياز بالزور. تعايش بالزور. على حدّ السيف. لأن المحيط له فروع في الداخل، والخارج له فروع في الداخل. المحيط يُهدّد ويبتزّ والخارج يخادع ويستغلّ. والداخل بين سُذّج ومرتزقة يقتتل وينتحر. ودائماً الغريق اللبناني يعاود السباحة. يُصلّي وَيقْتل. يصلّي ويُقْتَل. ويعيش على آمال منتزعة من أشداق الوحوش انتزاعاً. يعيش ويضحك ويُعمّر ويتألّق رغم ضآلته ورغم انتفاخ أدعيائه وتظاهر مُرائيه بالصدق والجسارة. يعيش رغم جهله، بفضل جهله، عيشة مُغْتَصَبة ضدّ قواعد الطبيعة، ضدّ موجات الغرائز، ضدّ المؤامرات، عيشة باتت مملّة لفرط كلامها على التوازن، وكأنّها تُحرّض المستمع أن يقول لها: «افرطي هذا التوازن المرهِق، خلّصينا من التوتر!».
وإذا انتهينا من هذا التوتّر انتهينا من الحياة.

الضائعون في لبنان بحاجة إلى من يقول لهم: لستم وحدكم، نحن أيضاً ضائعون.
أيّها الضائعون أنا واحد منكم. تعالوا نعتصم هذا بحلمه وذاك بيأسه. كلّها حبال ولو تغيّرت ألوانها. أيّها الضائعون، الآخرون أيضاً، أهلنا وجيراننا وأصحابنا وأخصامنا، ولو لم يدروا، ضائعون. نحن قَشّات في جزء صغير من سهول التلاعب.
تعالوا ننسى مضيّعينا لعلّهم يسهون عنّا. لا تهربْ من الفتنة مولولاً بل تَنَزّهْ على الهامش وكأنك في منام. انسَ دوّاماتهم. لا تَسْمعْ. أدر أذنكَ لأغاني الحبّ وموسيقى الخَدَر. لا تكن شيئاً إلاّ إنساناً. لا تكن إلا ضعيفاً يريد الحياة.

شعب جائع يعتاش من دمه. بات يُحْسَب بالأطنان، وهو الباقة الصغيرة. شعب فقير يهجم بعضه على بعض بَدَل أن يهجم كلّه معاً على مُفْقريه. شعب مجنون يريد من أحبّائه أن ييأسوا منه وهم يرفضون أن ييأسوا.
«إنَّ فيكم قوّةً لو فَعَلَتْ لغيّرتْ مجرى التاريخ». أين هي هذه القوّة؟ ومتى تفعل؟ ومتى نتخلّص ممّن يبدّدها؟ لا نطمح إلى تغيير مجرى التاريخ بل فقط، فقط إلى الحياة. الحياة الحرّة، دون شبهات، دون أيدٍ خَفيّة مجرمة، دون حقد الحيّ على الحيّ.
«تُرى... لو سَكَتْنا قليلاً؟...».