strong>غسان سعود ــ رزان يحيى
لعلّها اللهجة، أو لون البشرة... لعلّها الشعارات الجاذبة. في كل الحالات، ثمّة ما يميّزهم عن غيرهم ويجذبك نحوهم. إنّهم قلّة في ساحتين اعتمدتا على الأعداد للتمايز. نزلوا منذ اليوم الأول، وزّعوا خيامهم، وصور «أبطالهم» المفترضين، ليقولوا إنّهم هنا. مع المعارضة. يطالبون بإسقاط الحكومة، وبوجودهم يكتمل المشهد
«أقليّات» المعارضة تقدّم ولا تؤخّر...

«بيروت... لا! حاصر حصارك لا مفرُّ.. اضرب عدوك لا مفرُّ... أقول الآن لا!». لا يسارية، بزخم اليسار وحماسته وتوقه إلى الثورة. تظهر لافتة «طائفيتك توديك إلى حرب أهلية.. علمانيتك بتحميك»، والتوقيع: «حركة الشعب». ويسعى صوت نجاح واكيم لتحويل وجهة السير في بيروت. يُحاصر الحصار الذي تفرضه السرايا.
الحركة لم تهدأ في خيم حركة الشعب منذ اليوم الأول للاعتصام. ويبدو ذلك جلياً في التجمعات الليلية حول الزاوية التي يشغلها شبان الحركة. ويقول رئيس قطاع الشباب في حركة الشعب بلال طي إنهم وضعوا برنامج نشاطات، بحيث ينظمون نشاطاً كلّ مساء عند التاسعة. بداية حضر الفنان حسن سعادة. وفي اليوم الثاني، نظموا «منبر مفتوح» ليعبر كل من يشاء عن رأيه. وفي الليلة الثالثة، أقامت «فرقة الشعب» حفلة فنية قدمت خلالها المجموعة البقاعية أغاني ثورية عدة. ويضاف إلى هذه النشاطات معرض صور يحيط حركيّو الشعب خيمهم به، يعرض شعارات وصوراً تظهر للعالم بشاعة الحرب. وكلّ ذلك على الرغم ممّا يعانيه الشبان من نقص في التجهيزات، وخصوصاً في الخيم، وهو ما يدفعهم إلى الطلب من مؤيديهم الحضور إلى الساحة، على دفعاتيجمع الشباب على اختلافهم في الموقف السياسي عن سائر أطراف المعارضة، مؤكدين اتفاقهم مع المعارضة على إسقاط الحكومة الحالية، واختلافهم مع البعض على مبدأ إقامة حكومة وحدة وطنية. لماذا؟ «لأن من تعامل مع اسرائيل وشارك في السرقة والنهب مكانه في السجن لا في حكومة الوحدة الوطنية». ويستعيد عشّاق نجاح واكيم أسماء عدة مقاومين لإسرائيل من أبناء بيروت، للإشارة إلى طابع البيروتيين العروبي والمقاوم.
مستقلّون... ولكن
لم يأتِ صدفة اجتماع شبان خمسة تراوح أعمارهم بين 21 و25 عاماً في إحدى خيم ساحة الشهداء. أحمد عاطل من العمل، زياد أخذ عطلة مفتوحة من عمله حتى إسقاط الحكومة. ومحمد يقول إنه «نصّاب وحرامي، وتعلم من السنيورة». وجميعهم لا يربطهم انتماء بأي حزب أو تنظيم. فهم، بحسب ما يعرّفون أنفسهم، «المستقلون». عنوان لرواية أخرى: توجهنا إلى ساحة الشهداء وقررنا أن نبيت ليالينا هنا. والساحة، بالنسبة لهم، «أوفر» من منازلهم. هنا الترويقة على حساب حزب الله والتيار الوطني الحر، والغداء أيضاً. أمّا المصروف، فيقتصر على علبة المعسّل والفحم وغاز صغير. حتى إنهم لا يعرفون سبب اعتصامهم. المهم أن «السيّد دعا ونحن لبّينا». وأضيف إلى النارجيلة في روتينهم الجديد، «تلطيش» الصبايا.
لكن، في الساحة أيضاً، مستقلّون من نوع آخر بدأوا اعتصامهم، مع القوى المعارضة «تلبية لمطلب لا لدعوة». رضا، أحد هؤلاء المستقلين، يختلف يومه عن غيره من الشباب. فهو يعمل ليعيل عائلته وإكمال دراسته في إدارة الأعمال. يتهرّب من الكشف عن مكان عمله خوفاً من أن يطرد لأن المدير ينتمي إلى «تيار مستقبل». يعود رضا إلى الساحة صباحاً أو مساء بحسب الــshifts في العمل. ومن اللحظة التي يجتمع فيها مع «شباب الساحة»، تبدأ «المواعظ». فهو يرى أن الساحة مكان للنضال، وإن دخلتها النرجيلة و «طق الحنك»، وعلى الشباب أن يستفيدوا قدر المستطاع من وقتهم في تنمية روح الوطنية والمواطنة. وفي الإنجازات الإيجابية، يوضح رضا نجاحه حتى الآن في جعل ثلاثة شباب ينشغلون في النقاش، و«الخير لقدام».
...وكرامي هنا أيضاًمن ساحة الشهداء باتجاه رياض الصلح، تبدو مجموعة خيم رفعت عليها صور الرئيس عمر كرامي. أمام إحداها خمسة شبّان ينتمون إلى «حزب التحرّر العربي». الحزب الذي لم يبصر النور بعد، حزب كرامي الجديد. ويقول الشباب إنهم ليسوا تابعين إلى «الرئيس»، بل داعمون لكل إنسان شريف، ولذلك يؤيدون «كرامي وكل قادة المعارضة».
يقول مسؤول الطلبة في الحزب بلال الصوفي إنّهم جاؤوا لإسقاط الحكومة، وللتأكيد على عدم أحادية المعارضة، موضحاً بذلك أن في المعارضة تنوعاً طائفياً، وهي ليست معارضة شيعية وحسب، بل سنّية أيضاً، وإن «تيار المستقبل لا يختصر السنّة».
يشارك في الاعتصام الدائم حوالى 70 عنصراً من الحزب. ويقول الصوفي إن طلاب الحزب كانوا ممنوعين من العمل من «جماعة تيار المستقبل ومخابرات غازي كنعان»، وخصوصاً في الجامعة اللبنانية ــ كلية الحقوق في طرابلس. ويؤكد على عروبة الحزب، والسير على خطى الرئيس الشهيد رشيد كرامي. ويضيف أن نشاط الحزب تفعّل حين كثر استخدام المال السياسي في طرابلس. وينفي أن يكون للحزب طابع إقطاعي، مؤكداً، في الوقت نفسه، أن «نحن كشماليّين، ومسلمين سنّة، لا يمثلنا إلا عمر كرامي». ويبقى الأهم بالنسبة لطرابلسيي اللهجة، اختلاطهم مع لبنانيين من مختلف المناطق. وهم باتوا مولعين بالتوجّه صباحاً نحو السرايا لإيقاظ السنيورة بهتافاتهم. باختصار، هم في الساحة للدفاع عن لبنان «عربي، قومي، موحّد».
بحر صيدا وبحّارته
اليسار يطوق الساحة، يبدأ بحركة الشعب، وينتهي بخيم يسارية أخرى، خيم جنوبية. لكنها ليست صفراء ولا خضراء، يتوزع بينها شبان سمر، لا يحتاج الأمر إلى سؤال عن هويتهم. يقولون إن شهرتهم تسبقهم، حالهم من حال بحر صيدا. لا تفارق الابتسامة محياهم. يوزعونها بمختلف الاتجاهات. نقترب أكثر، يرحبون بضيفهم باهتمام لافت. ويوضحون أنهم، شبان التنظيم الشعبي الناصري. شاركوا منذ البداية المنظمات الشبابية بقرار النزول إلى الشارع. وهكذا كان.
يبدأون الكلام من صيدا. يستغربون ما يُحكى في الإعلام عن مدينتهم، ويؤكدون أن لا تمييز في صيدا بين سني وشيعي، أو بين سني وسني، وأنّ مفتعلي المشاكل هم من خارج المدينة. كما يشددون على تحالفهم مع حزب الله بالرغم من بعض الاختلاف الفكري. ووسط النقاش، يتدخل مسؤول الطلاب جمال مغربي مؤكداً أن الوحدة الوطنية ليست بجمع القرآن والصليب بل بالتعايش. ويوضح أن ما يحصل في ساحة الشهداء هو تجمع للبنانيين متنوعي الانتماءات، يناقشون كل ليلة قضايا مختلفة تبدأ بالسياسة وتنتهي بأمور اجتماعية متعددة. ويشير مغربي إلى أنّهم كانوا يتوقّعون حضور عدد محدود من المناصرين، لكنّ الخيم تزداد كل يوم.



غرام وانتقام
محمد خير، «مسلم سني، لبناني، عربي، ودمي سوري». سجلّه العدلي ملطّخ بشهرين في سجن القبّة. هو أيضاً في ساحة رياض الصلح، يعتصم ليلاً ونهاراً للانتقام مِن الذي وضعه ظلماً في السجن.
يقول خير إنّ حكايته بدأت يوم تكريم الرئيس عمر كرامي عند كمال الخير بحضور قادة المعارضة. كان مناصرو الرجلين يعلّقون لافتات ترحّب بالمعارضين، وتؤيّد «الرئيس» الذي لا يخفي خير غرامه به. قبل ساعات قليلة من بدء التكريم، رأى خير «شباباً من المستقبل يعلّقون لافتات مناهضة لنا». ويقول إنّه حاول وصديق له اعتراض الشباب، لكنّهم رفعوا عليهما «السلاح الأبيض والدولة اللبنانية كانت واقفة وراءهم». لذلك، يضيف خير «ضربناهم ووضعناهم في صندوق السيارة ثم سلمناهم للقوى الأمنية». لكنه فوجئ في اليوم الثاني بطلبه للتحقيق، وحكم عليه بالسجن شهرين.
يؤكد خير أن هؤلاء الشبان أتوا للتخريب، وأنّ ضغطاً سياسياً مورس لإبقائه في السجن. ويشير إلى أن الشبان «استأجرهم تيار المستقبل بـ50 ألف ليرة لبنانية». خير، باختصار، لم يأت إلى ساحة الشهداء لإسقاط الحكومة فحسب، بل لينتقم من دولة تميّز بين أبنائها.



بعيداً من المدرسة
تنتقل ثلاث صبايا بين الساحتين، يتفقّدن الأوضاع. يحاولن لفّ الأعلام اللبنانية والحزبية على اللباس الرسمي المدرسي ليخفينه. إلا أن الأعلام لا تفي بالغرض. من ساحة إلى أخرى ومن خيمة إلى أخرى تبحث الصبايا عن مبتغاهن حتى إيجاده. شابات وشبان، يربطهم اللباس الموحد التابع لإحدى المدارس القريبة من ساحة رياض الصلح. هؤلاء طلاب منعوا من «النضال» لأن مدرستهم تؤيد تياراً سياسياً في السلطة، كما يقلن. فقرّرن الانتقام عبر الغياب عن كل الصفوف.
هنّ ذاهبات صباحاً إلى الساحة سيراً على الأقدام، لأنّ «الأوتوكار» يوصلهنّ إلى المدرسة، ويغادرن عند الساعة الثانية بعد الظهر، ليلحقن بالباص. في الساحة أيضاً، يؤدّين دور التلامذة. فثمة وقت للدرس و«للفرصة» ووقت للدردشة مع الأصدقاء. سارة تعتبر أن وجودها في الساحة يجدي نفعاً أكثر من المدرسة، لأن «لبنان رح يفرط إذا مش كلنا منسقّط الحكومة». وتهدف حوراء من مشاركتها إسماع السنيورة «كم كلمة».



من قهري ومن جوعي
من بعيد، تطل صور الأسير سمير القنطار وغيفارا. الصور الحمراء، والعيون الواعدة بلقاء وثورة وانتصار لليسار. الكوفية الفلسطينية، وأغاني مرسيل خليفة وسامي حواط وخالد الهبر... وأغاني أجنبية يجمعها الغزل بغيفارا... موسيقاهم تدل عليهم، وكذلك المنجل والمطرقة. هنا العنوان: «من قهري ومن جوعي، بدي أعمل شيوعي». وكأن انتماءهم الشيوعي يغيّرهم، ويلونهم بأسلوب حياة وذوق ثياب وتسريحة شعر.
تميزوا عن كل الآخرين برفع صور سمير، وهتفوا له ردّات مختلفة تنتهي جميعها بالوعد «سمير لح بيعود». يظنهم البعض، الشيوعيين. وهم كذلك فعلاً، لكنهم ليسوا شيوعيّي الحزب الشيوعي.
يتراجع خليل، أحد الضيوف، خطوتين إلى الوراء سائلاً: «شو؟ يسار ديموقراطي!». فيسارع محمد حشيشو، أحد أبرز الناشطين في الحزب الديموقراطي الشعبي، ليوضح هويته.
يبدو الشبان في الخيمة الرئيسية نشطين، يتحركون يساراً ويميناً (ولو بصعوبة). يُفاجأ أحد الشبان، في الخيمة، بحضور صحافي للكلام معهم. ويوضح أن ثمة حصاراً تاريخياً إعلامياً وسياسياً عليهم.
يعد «الديموقراطيون» بتجهيز طاولة حوارية تجمع معظم الأطراف السياسية الموجودة في المخيم للنقاش في قضايا مختلفة، وبتعزيز النقاشات السياسية والثقافية والاقتصادية في المخيم، إضافة إلى قراءات أدبية ستُطلق يوم الاثنين المقبل. وعن حزب الله والأطراف الأخرى، يؤكدون أنهم مع أي عمل يمكن أن يحرر القنطار. ويذهبون أبعد من ذلك، فيطالبون بمحاولات دائمة لتحرير كل الأسرى في السجون الإسرائيلية والأميركية.
ولا يُمكن للزائر أن يخرج من الخيمة من دون سماع القصة كاملة. سمير كان رفيقاً لنا وانتسب إلى الحزب طوال عامي 1976 و1977. يستعيد حشيشو المشهد قائلاً: «أنا كنت صديقاً شخصياً له». أمّا تحالفاتهم المتناقضة مع توجّههم العلماني، فيوضح أحد الشبان أن التحالفات تتقاطع مع قوى معينة، تحقّق هدفها المشترك ثم يفترق المتحالفون. ويتدخل زميله قائلاً: «إذا كنت أريد أشخاصاً يشبهونني مئة في المئة، فلن أجدهم إلّا في حزبي».