جوزف سماحة
تقرير بيكر ـــ هاملتون حدثٌ لبناني. ليس لأنه يتحدث عن لبنان مباشرة فحسب بل لأنه يضع تصوّراً إجمالياً لما يجب أن يكون عليه مستقبل المنطقة كلها منطلقاً من تأكيد أن الأزمات متداخلة وكذلك الحلول.
يهبط التقرير على وضع لبناني مأزوم. وهو مأزوم بالضبط نتيجة السياسات الأميركية فيه وفي الإقليم بعد حرب العراق، ونتيجة تجدّد التجاذب فوق أرضه، ونتيجة الإشكالات في العلاقات مع سوريا، ونتيجة التباينات اللبنانية في إدارة الصراع مع إسرائيل.
ومع أن بلدنا موضوع من مواضيع وثيقة انتظرها العالم طويلاً، فإن الغريب هو أنها لم تنجح في اقتحام السجالات الداخلية. وفيما حاول الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله وضع سياسة حزبه في سياق وطني وإقليمي فإن رد رئيس الحكومة فؤاد السنيورة عليه تميّز بإدقاع وفشل حيث كان يعتقد أنه سينجح: الإسفاف.
إذا جاز لنا أن نقوم بقراءة للضمنية الرئيسية في تقرير بيكر ـــ هاملتون فإننا نقترح القراءة التالية: لقد ثبت أن الاحتلال الأميركي للعراق فاشل ولا أمل له بالنجاح. ولقد تسبّب هذا الاحتلال بخسارة جديّة، وفي غير مجال، للولايات المتحدة فيما كان مفيداً، وفي غير مجال، لإسرائيل. لذا فإن الولايات المتحدة مطالبة بتغيير وجهة سلوكها في العراق نحو الانكفاء الجزئي على أن يصاحب ذلك سعي إلى إنتاج بيئة إقليمية مستقرّة. وهذه البيئة لن تستقر إلا بالعودة إلى تحريك المفاوضات لحل أزمة الشرق الأوسط وفتح ذلك على احتمال حصول الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين على بعض حقوقهم في أرضهم المحتلة من إسرائيل. لذا يجب على إسرائيل أن تدفع ثمناً ما لتوفير شروط الانكفاء الأميركي وهذا الثمن هو، حصراً، أقل بكثير مما جنته من التدمير الذي لحق بالعراق. بكلام آخر، إن الاحتلال الإسرائيلي جزء من مشاكل الشرق الأوسط ولا مجال لحل مشكلة الاحتلال الأميركي للعراق إلا بحل موازٍ لمشكلة الاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ عربية.
يقترح تقرير بيكر ـــ هاملتون على الإدارة الأميركية أن تتقدم من سوريا بالمبادرة التالية: العراق مقابل الجولان. ويعني ذلك أن تساعد دمشق واشنطن في الملف العراقي مقابل أن تعيد واشنطن إطلاق المفاوضات الإسرائيلية ـــ السورية بأفق إعادة الجولان المحتل.
يقود ذلك إلى طرح سؤال: هل من جديد يقدمه التقرير على السياسة الأميركية حيال سوريا؟ الجواب القاطع: نعم.
هناك أولاً الدعوة إلى التفاوض الأميركي مع سوريا من دون شروط مسبقة. وهذا ما كانت ترفضه إدارة جورج بوش. فهي ترى أن سوريا غير مؤهّلة لأن تكون محاوراً لمجرد أنها خصم وأن عليها أن تقدم على خطوات كثيرة قبل أن تحظى بهذا الشرف. لا ينكر بيكر وهاملتون الخصومة مع سوريا لكنهما يذكران بواقعية أنه «من وجهة نظرنا في السياسة يمكن لأمة، ويجب، أن تشرك أعداءها في محاولة حل النزاع والخلافات بتناغم مع مصالحها الخاصة».
هذا أولاً. أما ثانياً فإن التقرير يستعرض رزمة حوافز يمكن تقديمها إلى سوريا (وإيران) مقابل المساعدة في العراق. من هذه الحوافز إشعار دمشق بأنها صاحبة مصلحة في استقرار العراق وأن أميركا لا ترى عراقاً مستقراً إلا في منطقة (ومع سوريا) مستقرة. ومن الحوافز أيضاً قبول سوريا في المنظمات الدولية، وتعزيز العلاقات الدبلوماسية الثنائية، وإيجاد إطار لسلام حقيقي شامل يمكن التفاوض عليه مع إسرائيل بتدخل أميركي وكجزء من مبادرة سلام شامل.
إن هذا ما يسمى «دبلوماسية»: اعتماد قدر من التبادلية.
يجب علينا أن نلاحظ أن عرض «العراق مقابل الجولان» لا يشمل لبنان بأي بشكل من الأشكال (ولا يشمل فلسطين إلا جزئياً). لبنان خارج البنود الحرفية للصفقة. يتأكد ذلك من أن التقرير يعدّد المطالب التي يفترض بالولايات المتحدة رفعها حيال سوريا في لبنان فإذا بها، إلى حد كبير جداً، المطالب التي ترفعها الإدارة الأميركية الحالية:
ـــ تطبيق القرار 1701.
ـــ وقف مساعدة حزب الله أو تمرير السلاح الإيراني إليه.
ـــ ممارسة ضغط على الحزب لتسليم الأسيرين الإسرائيليين.
ـــ التعاون في التحقيقات الخاصة بالجرائم الإرهابية والجريمتين ضد رفيق الحريري وبيار الجميل تحديداً.
ـــ وقف الجهد لتقويض حكومة لبنان المنتخبة ديموقراطياً.
تقترب هذه البنود مما تقوله كل يوم الولايات المتحدة. نعم ثمة فروق طفيفة من نوع الدعوة إلى التعاون في التحقيقات لا مع المحكمة، ومن نوع إغفال القرار 1559، لكنها فروق لا يعتدّ بها كثيراً وإن كان من الواجب التوقف عندها.
يمكن تسجيل ثلاث ملاحظات على ما تقوله وثيقة بيكر ـــ هاملتون في شأن الموقف الأميركي المطلوب من السياسة السورية في لبنان:
أولاً ـــ إن اللجنة التي يترأسها الرجلان تعتمد هذه السلّة بصفتها عرض التفاوض الافتتاحي. وفي الإمكان الظن أنهما يضمران أن دمشق قد تكون راغبة في تعديل البنود لمصلحتها وليس مستبعداً أن يكون التراجع نحو خط الدفاع الثاني واضحاً في ذهن بيكر وهو الخبير في شؤون التفاوض مع دمشق.
ثانياً ـــ إن الجوهري في التقرير كله هو أن الولايات المتحدة ستتصرّف كأنها صاحبة مصلحة في الاستقرار السوري. إذ لا يعقل أن تكون دمشق مطالبة بالمساعدة في استقرار العراق والمنطقة من جانب الجهة نفسها، أي واشنطن، التي تعلن أنها غير مهتمة باستقرار سوريا!
ثالثاً ـــ يمكن الاستنتاج من البندين الأولين أن هامش المناورة، في ما يخص لبنان، مفتوح إلى حد ما في ما له صلة بالعلاقات السورية ـــ اللبنانية. إنما هو مفتوح بما لا يوحي بإمكان العودة إلى وضع سابق ساد في التسعينيات وشارك بيكر في صياغته انطلاقاً من العراق في تلك المرة، لكنه مفتوح أيضاً بما لا يوحي بإمكان التجاوب مع رغبات بعض اللبنانيين في تحويل «ثورة الاستقلال» لديهم إلى «ثورة ديموقراطية» في سوريا.
هذا هو التصوّر النظري الذي يقدمه تقرير بيكر ـــ هاملتون للعلاقة مع سوريا ولتأثير ذلك على العلاقات السورية ـــ اللبنانية. إنه تصوّر يقوم على «العراق مقابل الجولان» أولاً، وتحييد لبنان عن الصفقة ثانياً، واحتمال أن تنعكس عليه، جزئياً، أجواء التحسّن في العلاقات الثنائية الأميركية ـــ السورية. لكن...
لكن هذا التصوّر نظري إلى حد بعيد. لماذا؟ لأن طرفين معنيين به مباشرة لم يوافقا عليه حتى الآن. فالرئيس جورج بوش يبدي سلبية حياله ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت يعلن رفضه له. ويجب أن نضيف إلى ذلك ديناميات الصراع في لبنان والمنطقة وهي ديناميات قد تجعل التقرير كله نافلاً بعد أشهر أو أسابيع.