نقولا ناصيف
دخلت المواجهة بين الغالبية الحاكمة والمعارضة أيامَ الحسم من دون أن يبدي أي من الطرفين استعداداً للتراجع أو اللين. وإذا صحّ أن انتصار المعارضة سيؤول إلى أكثر من استقالة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وإلى أكثر من حصولها على الثلث زائداً واحداً في الحكومة الجديدة، بل إلى انقلاب يجعل هذا الفريق يتسلّم السلطة، فإن انتصار الغالبية سيفضي بدوره إلى انقلابها على نفسها ومضيها في ما تردّدت في القيام به حتى الآن من أجل اكتمال الانقلاب السياسي منذ 14 آذار 2005، وهو تدحرج الرأس الأخير الذي لا يزال يشكل عقبة في طريقها، أي إسقاط الرئيس إميل لحود. ولذا تبدو مواجهة الأيام المقبلة معركة دحرجة رؤوس كبيرة وتصفية حسابات محلية وإقليمية قديمة وجديدة، لكون حسمها سيكون في الشارع على الأرجح.
ومع أن طموح كل من الفريقين إلى تحقيق أهدافه قد يبدو أقرب إلى أوهام ويدفع بالبلاد إلى فتنة داخلية حقيقية، فإن استمرار تبادلهما عرض العضلات في الشارع وفي السياسة، وتبادل الاتهامات والإهانات وشتى النعوت، يذهب بهما وبالبلاد إلى الانهيار. كل ذلك من غير أن تتوافر مرجعية أخرى أقوى منهما، عربية أو دولية، قادرة على فرض الحل عليهما معاً. لا الجهود الدبلوماسية العربية قدمت التسوية التي ترغم الطرفين على القبول بها، ولا الدعم الدولي حافظ على حماسته حيال وضع داخلي متفجّر وبدأ يصير مغلقاً وعاصياً على الحل للخارج أو يريد الخارج أن يكون عاصياً على الحل.
تعكس هذا الانطباع معلومات وصلت إلى جهات لبنانية رفيعة المستوى على اتصال دائم بواشنطن، منسوبة إلى مسؤولين بارزين في الإدارة الأميركية تشير إلى المواقف الستة، الدقيقة، الآتية:
1 ــــــ لم تعد نظرة الإدارة إلى لبنان تتسم باهتمام كبير بما يحصل فيه، وخصوصاً منذ اليوم الأول لاعتصام المعارضة في الأول من كانون الأول. ليس هذا فحسب، بل يُنسب إلى المسؤولين البارزين في الإدارة «تشاؤمهم» بمصير حكومة السنيورة وما قد تواجهه في الأيام المقبلة، وقدرتها على الصمود في وجه الضغوط الشعبية والسياسية التي يقودها «حزب الله» وتيار العماد ميشال عون وحلفاؤهما.
2 ــــــ لم تكن الإدارة راضية عن جانب من المبادرة التي تولاها قبل أسبوعين في بيروت الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى. ومن غير أن يكشف المسؤولون الأميركيون البارزون ما انطوى عليه هذا الجانب، فإن معارضتهم للمبادرة كانت بالتنسيق مع رئيس الوزراء اللبناني الذي لم يكن هو الآخر راضياً عن بعض الأفكار التي طرحها موسى. وبحسب ما يُبرِزه المسؤولون الأميركيون، فإن وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس اتصلت بموسى بعد مغادرته لبنان وأبلغته أن الخطة التي يقترحها للحل تشكّل «فخاً» لحكومة السنيورة، وواشنطن لا تشجّع منحى كهذا، الأمر الذي يعني ضمناً أن التحرّك المرتقب للأمين العام أضحى غير ذي جدوى، وقد لا يكون الرجل في صدد استئناف هذا التحرّك وزيارة بيروت ما لم يطرأ تطور خطير يقلب الأوضاع، أو يعيد هو طرح أفكار مختلفة.
3 ـــ ترغب الإدارة الأميركية رغبة شديدة بأن يقوم البرلمان اللبناني بالمصادقة على خطة الأمم المتحدة المتعلقة بمشروع المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري والوثائق القانونية الملحقة بها. ويعزو المسؤولون الأميركيون هذا الموقف إلى ما كان قد بلغهم من نظرائهم الروس، في اتصالات جانبية، وهو أن موسكو ستستخدم حق النقض في مجلس الأمن إذا طُرِح مشروع المحكمة الدولية من دون اقترانه بمصادقة مجلس النواب اللبناني عليه. ويتسلّح الروس بحجة يقول المسؤولون الأميركيون إنهم لم يصدّقوها تماماً، هي أن إقرار المشروع في معزل عن موافقة كل السلطات الدستورية اللبنانية المعنية (أي مجلس الوزراء والبرلمان ومن ثم توقيع رئيس الجمهورية) يتعارض مع السيادة الوطنية للبنان. إلا أن واشنطن تعزو هذا الموقف إلى أسباب محض روسية تتذرّع ظاهراً بالسيادة اللبنانية لإخفاء معارضتها المبدئية لإنشاء محكمة دولية لأسباب تتصل بانعكاس مثل هذه السابقة على مشاكل موسكو مع جمهورياتها السابقة. مع أن المسؤولين الأميركيين باتوا متيقّنين من تعذّر مصادقة مجلس النواب على المشروع في المدى القريب بعدما أضحى جزءاً من تسوية سياسية مستحيلة بسبب الانقسام الداخلي، الأمر الذي يجمّد المشروع ويعطله.
4 ــ طلبت الإدارة من دوائر رفيعة في الفاتيكان التوسّط لدى البطريركية المارونية في لبنان، لحملها على ممارسة ضغوط على عون بغية فك تحالفه مع «حزب الله»، وتجريد الأخير من الغطاء المسيحي السياسي والشعبي الذي يوفّره له. لكن المسؤولين الأميركيين البارزين، نظراً إلى إلمامهم بطباع الزعيم المسيحي وطريقة مقاربته السياسة واستقلاله في اتخاذ خياراته وقراراته، يبدون متشائمين بإمكان التأثير عليه، ويعتقدون أن الأحكام التي كوّنوها عنه سابقاً وتجربة علاقتهم به ماضياً وحاضراً لا تشجّع على الرهان على الاعتقاد بإمكان تخليه عن الحزب.
5 ـــــــ كان ثمة جهد دبلوماسي يرمي إلى إصدار بيان أميركي ــ فرنسي مشترك يؤكد الدعم غير المشروط لحكومة السنيورة ورفض إسقاطها في الشارع وتعريضها لأي تهديد، ما لبثت واشنطن وباريس أن صرفتا النظر عنه اعتقاداً منهما بأنه ـــــــ كبيان مشترك يصدر عن الدولتين الكبريين ــــــــ من شأنه أن يضاعف ضغوط المعارضة على الحكومة اللبنانية وإرباكها، وسيُنظَر إليه بوصفه تدخّلاً في الشؤون اللبنانية. فاتفقتا على الاكتفاء، كل على حدة، بإصدار مواقف دورية تعبّر عن “الدعم غير المشروط” للحكومة.
6 ـــــــ تلاحظ الإدارة أن دمشق تتصرّف اليوم، في حمأة نزول المعارضة إلى الشارع وتقييد قدرة حكومة السنيورة على التصرّف، على أساس أن الوقت ربما حان لعودتها السياسية الصريحة إلى لبنان من خلال حلفائها، وقد استعاد هؤلاء بفضل «حزب الله» المبادرة ونشاطهم، وكذلك فاعلية تأثيرهم على الاستقرارين السياسي والأمني في لبنان. واستناداً إلى تقويم المسؤولين الأميركيين البارزين، فإن نظام الرئيس بشار الأسد يبني حسابات سياسية جديدة في تحقيق عودته السياسية هذه، آخذاً في الاعتبار الإنهاك الذي أصاب الرئيس الأميركي جورج بوش بعدما استنزفته تجربة تدخّله في العراق على مرّ الأعوام الثلاثة المنصرمة وبعدما انتقلت سلطة الكونغرس إلى الحزب الديموقراطي، وتهيؤ الرئيس الفرنسي جاك شيراك للخروج من الإليزيه بعد أقل من ستة أشهر، وكذلك هي حال الحليف الغربي الثاني رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير.
أما الأكثر لفتاً في ملاحظات المسؤولين الأميركيين المذكورين، فهو شعورهم بأن الروس «ليسوا غير سعيدين بنجاح» الخطة السورية، إذا نجحت دمشق فعلاً في استعادة نفوذها السياسي في لبنان عبر مكاسب سياسية مهمة ــ وقد تكون خطيرة ــ ينتزعها حلفاؤها المعارضون اللبنانيون في المعركة التي يخوضونها ضد حكومة السنيورة والغالبية الديموقراطية التي تدعمها.