طارق ترشيشي
كان منتظراً ان تبادر البطريركية المارونية الاسبوع الماضي الى إعلان «الثوابت المارونية» خارجة عن صمتها في خضمّ الطروحات والطروحات المتناقضة بين المعارضة والاكثرية الحاكمة، لتؤكد شراكتها في السعي الى إخراج البلاد من ازمتها التي بلغت ذروتها نتيجة انسداد كل الآفاق المحلية والاقليمية والدولية امام الحلول المطلوبة.
فما احتوته هذه الثوابت التي ايدها الجميع لكونها تحاكي الواقع وتأخذ بكل معطياته، لم يكن وليد مصادفة بل جاء نتيجة عمل دؤوب بذله بعض اركان البطريركية المارونية الذين استجمعوا آراء الآخرين ومواقفهم واستعانوا ببعض الراسخين في صيغة لبنان والعيش المشترك بين ابنائه حتى خرجوا بها مقتنعين بأن لا عودة للبنانيين الى الفتنة سواء بين المسيحيين والمسلمين أو بين المسيحيين انفسهم، ولا بين المسلمين انفسهم لأن الدنيا اللبنانية تغيرت ولأن الدنيا حول لبنان تغيرت وتتغير كل يوم، والتجارة الطائفية او المذهبية لم تعد رائجة لأن الغالبية الساحقة من اللبنانيين التي تملأ الساحات هذه الايام تؤلّف السد المنيع امام اي فتنة ولأن الوعي السياسي والوطني الذي بات اللبنانيون يتحلون به جعلهم يتجاوزن الطائفية والمذهبية نتيجة التنوع السياسي والطائفي الذي تتميز به المعارضة والاكثرية الحاكمة على رغم محاولة بعض الأكثريين اللعب على الوتر المذهبي حيناً والطائفي احياناً لمواجهة المعارضة ولتكتشف أن القاعدة الشعبية عصية على الدخول في حروب مذهبية .
ويبدو أن بكركي بثوابتها اللبنانية هذه، قد حسمت خياراتها وقررت الخروج من الموقع الذي يدفع البعض الى وصف مواقفها بـ «الملتبسة» الى موقع الوضوح، ولذا جاءت هذه الثوابت لتسلب الأكثرية بعض الغطاء وتدحض ادعاءاتها:
ــ في الثابتة الأولى، تؤكد بكركي تمسكها بـ «الديموقراطية التوافقية» وبذلك تكون قد عارضت النهج السياسي للأكثرية التي تتحصن بـ «الديموقراطية الاكثرية».
ــ في الثابتة الثانية، تسحب بكركي الصفة الدستورية، وفي الحد الادنى الصفة الميثاقية عن الحكومة، من خلال تشديدها على مراعاة ميثاق العيش المشترك، وفي هذا الموقف طعن بشرعية الحكومة التي سقطت باستقالة الوزراء الشيعة منها.
ــ وفي الثابتة الثالثة ادخلت بكركي الى قاموس النقاش السياسي فكرة الانتخابات النيابية المبكرة، وبذلك تكون قد حاصرت الاكثرية الحاكمة وأنها لن تستمر في السلطة حتى انتهاء ولاية المجلس الحالي، وبالتالي، تكون قد قصَّرت عمرها الى النصف وحاصرتها بإنجاز مشاريعها المرحلية والاستراتيجية خلال اشهر عدة فقط. وفي الوقت نفسه تكون بكركي قد فتحت المجال أمام المعارضة لكي تطور مطالبها بحيث لا تبقى محصورة في مطلب حكومة الوحدة الوطنية، وفي هذا دعم غير مباشر لهذه المعارضة وليس تأييداً لها، بل محاولة من بكركي لاغتنام الرياح الداخلية بعد إحجام او عدم قدرة على اغتنام الرياح الغربية الآتية. كما أن بكركي في تبنّيها الانتخابات النيابية المبكرة، تشترط أن يقوم قانون الانتخاب الجديد على اساس الدائرة الصغيرة، وهي القضاء الذي تسعى اليه منذ التوصل الى اتفاق الطائف. وربح المعارضة هنا في أنها تعطي «الدائرة القضاء» لبكركي في مقابل ان تسير في انتخابات مبكرة يعقبها انتخاب رئيس جمهورية بواسطة المجلس النيابي الجديد الذي يكون قد انتُخِب، وتراهن المعارضة على أن يكون في مصلحتها. وبالتالي، فبدل أن تطلب المشاركة في انتخاب الرئيس المقبل يمكن ان تنقلب الآية وتصبح الاكثرية الحالية هي من يطلب ذلك. وفي ضوء هذا تكون بكركي قد أضافت شيئاً الى خزانة المعارضة، وهو أنها عند إعلانها أن الحكومة مشكوك بشرعيتها، شأنها شأن رئيس الجمهورية، جعلتها في موقع الدفاع عن النفس ولم يعد في امكانها أن تهجم على رئيس الجمهورية. وبذلك تكون ثوابت بكركي قد سحبت انابيب التنفس الاصطناعي المسيحية للحكومة في اللحظة التي تعيش فيها في غرفة العناية الفائقة، وهذا ما سيُعَجِّل ولادة المبادرة العربية الآتية هذه المرة من البوابة السودانية رئيسة الدورة الحالية للقمة العربية. على أن الحشد البشري غير المسبـوق الذي شهدته بيروت أمس، جاء ليعزز ثوابت بكركي والمبادرة العربية تحت ضغط المهل التي حددها الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قبل ايام، ورئيس تكتل التغيير والاصلاح العماد ميشال عون أمس، للأكثرية الحاكمة حتى تقبل بالمعارضة شريكة لها في حكومة وحدة وطنية تحت طائلة عدم القبول بها شريكة لاحقاً بعد اسقـــــــاط الحكومة الحالية.
فهل تأخذ الاكثرية «جائزة ترضية» وتسير في حكومة مع المعارضة؟ ام أن واشنطن ستضحّي بها بعدما باتت أحمالاً زائدة عليها لأن المركب الاميركي على وشك الغرق ويعمل على انقاذ نفسه من دون حلفائه؟
تطورات الايام المقبلة ستحمل في طياتها المؤشرات على ما سيؤول اليه مصير الاكثرية وحكومتها.