جوزف سماحة
هل للتظاهرات وظيفة؟ يجدر بنا في لبنان أن نطرح هذا السؤال. وهو موجّه تحديداً إلى السلطة. لقد كانت حاضرة، مع القوى الداعمة لها، أمس، في القاعات وفي الشوارع. وكانت حاضرة، أيضاً، على امتداد الأيام السابقة. وتنوي، كما يبدو، الاستمرار في التعبير الشعبي عن نفوذها. يعني ذلك أنها تميل إلى الجواب إيجاباً عن السؤال: نعم، للتظاهرات وظيفة.
إلا أن ما يتجنبه الناطقون باسم هذه السلطة هو التفكير في معنى التظاهرات التي تنجح المعارضة في حشدها. يفترض بالحاكم، أي حاكم، أن يقيس بدقّة التحركات المعترضة عليه، وأن يدرس حجم التعبئة فيها، وأن يراقب شعاراتها. يفترض به أن يتعاطى معها بصفتها دليلاً على عمق ما يعتمل في نفوس مواطنين، وأن يستخدمها أداةً لجسّ نبضهم، وأن يقرر كيفية تصرفه في ضوء ذلك.
من حق الرئيس فؤاد السنيورة أن يحوّل السرايا إلى ملتقى لوفود، وأن يخطب فيها شارحاً موقفه. ومن حق التيارات الداعمة للحكومة أن تتظاهر حيث تريد. ولكن ما لا حق للسنيورة به هو الاكتفاء برؤية نصف المشهد والإصرار على التعامي عن النصف الآخر أو معاملته بتعالٍ وتشاوف.
لقد حصلت تظاهرة أمس بعد اعتصام دام عشرة أيام. كانت حاشدة بالتأكيد. وهي حصلت بعدما استمع اللبنانيون إلى الحجج كلها. لقد عاش مئات الآلاف عبر البث المباشر، وعبر وسائل الإعلام، وقائع سجال وطني صاخب وصريح. ألقيت خطب وألقيت ردود عليها. ما من أطروحة يملكها طرف سياسي إلا باتت في التداول. لا يستطيع أحد أن يغرّر بأحد. المتظاهرون راشدون أولاً وواعون ثانياً. وهم، إذ ينزلون إلى الشارع بهذه الكثافة، فلأنهم يريدون إيصال رسالة.
لا يمكن أي حاكم مسؤول أن يتجاهل هذا الواقع، وخاصة إذا كان يصرّ على أن يرى في التحركات المقابلة نشاطاً ذا معنى. «المعنى» منشطر في لبنان، وثمة كتلة بشرية وازنة لا توافق السلطة على «معناها» للبنان وتطلب، حتى الآن، المشاركة في الصياغة. المشاركة في الصيغة.
لقد شهدنا في الأيام الماضية نماذج من تعليقات أركان الحكم وأعلامه على تحرك خصومهم. التهمة ـــ المفتاح هي أن انقلاباً يجري تنفيذه. إذا كان هذا هو الانقلاب، فلا معنى بعد اليوم للهبّة الشعبية. التحرك علني، سلمي، ديموقراطي، شعبي، مستمر، فيما الانقلاب سرّي، عنفي، غير ديموقراطي، معزول، فجائي. أما إذا كان القصد من التهمة الإيحاء بأن هناك من يطلب تغييراً في التوجّه، فهذه ليست تهمة إلا في حق من يراها كذلك.
التهمة الأخرى أن التحرك غير وطني. إنه «تحرّك الآخرين على أرضنا». نسجل، هنا، أن المزاعم عن مشاركة العمال السوريين تراجعت، وأن ما حلّ محلها هو أن المتظاهرين اللبنانيين هم عمال لدى رب العمل السوري. التهمة تقفل باب التسوية وتخرج نصف المواطنين من المواطنية. ولنلاحظ، هنا، أن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله حين وجّه اتهاماً بالتواطؤ مع العدوان الإسرائيلي قصر التهمة على «قيادات». لم يرم المؤيدين بأي شك.
التهمة الثالثة هي أن التحرك مذهبي وأنه، ضمن المذهب، حزبي. هذا نوع من دفن الرأس في الرمال. إنه تعاطٍ طفولي مع رفض «التيار الوطني الحر» الانهيار. نلغيه في الذهن ما دام جمهوره لم يلغه. ونبني سياسة إعلامية على أساس أن هذه القوة السياسية ذبلت واضمحلت. وإذا كان جائزاً أن تكون هذه سياسة إعلامية، فمن الخطأ أن تكون سياسة. الواضح، أو هكذا يفترض أن يكون، أن تهمة المذهبية يقصد منها أن تحدث ارتداداً مذهبياً، وهذا ما يحصل.
ثمة اتهامات أخرى من نوع «تحويل لبنان إلى ساحة»، فيما يعلم القاصي والداني أن تثبيت الانقسام هو المدخل إلى هذا التحويل.
وعندما لا نكون أمام اتهامات نصبح أمام مواقف لا تخلو من غرابة. فأقطاب في السلطة يعدون مواطنيهم موضوع «فرجة»، أو حتى أقل من ذلك، كمّاً مهملاً لا يستأهل «رفّة جفن».
لو كان أحد يطالب فؤاد السنيورة بأن يتخذ موقفاً بناءً على استطلاع للرأي العام لجاز اعتبار ذلك ابتذالاً للديموقراطية. إلا أن الواقع هو أن السنيورة مطالب بموقف من جانب تحرّك يصدر من أعماق المجتمع اللبناني وجوفه بدليل أنه مستمر، ومتصاعد، وقابل لأن يفيض عن حدود مرسومة له.
إن في محيط الرئيس السنيورة من يعلم أن التظاهرات أسقطت أنظمة في المعسكر الاشتراكي، وأن تظاهرات قادت حكومات ديموقراطية، غير مرة، إلى تغيير سلوكها وتوجّهها. ليس التراجع عيباً أمام هذا النداء الشعبي الأصيل الذي يمكن إرضاؤه بصيغة جدية من صيغ المشاركة.
ليتذكّر الرئيس السنيورة ما قيل ذات مرة عن التظاهرات الاعتراضية على حرب العراق. لقد ابتدع أحدهم تعبيراً موفّقاً مؤدّاه أن الرأي العام العالمي أصبح قوة تملك حق النقض في مجلس الأمن إلى جانب الدول الدائمة العضوية. التعبير موفّق، وإن لم يكن دقيقاً. لم يأخذ حكّام برأي مواطنيهم. وها نحن نرى النتيجة اليوم.
إن استدراك الوضع ممكن. والتاريخ يقاس بالساعات والأيام لا بالأشهر والسنوات. التسوية الواردة اليوم قد تصبح بعيدة المنال غداً.