جان عزيز
اليوم يمضي العام الأول على رحيله. واليوم تمضي السنة الأولى من زمن «تشييء» الشهداء ومركنتيلية الدم. صحيح أن لا أحد يمكنه أن يحرم «هؤلاء» نعمة التوبة، ولا أن يصادر مستقبل الآراء المتقلّبة، غير أن الصحيح أيضاً أن في بعض مكرّمي جبران، ظلماً له، أكبر من الظلم الذي ضجّت به حياته النيزكية.
ليس ضرورياً العودة الى جبران البدايات: بشير و«الجبهة اللبنانية»، ورفض الطائف، وحركة دعم التحرير وحصار عوكر والنفي الطوعي ـــ القسري والعودة والاتهامات... تكفي الأعوام الأخيرة، شهادةً لظلم جبران، قبل الشهادة، والأكثر بعدها.
بعض المجالس بالأمانات؟ لكن ماذا عن الأمانة للحقيقة، في زمن غربان السياسة والسيادة، زمن الثوار «النكروفيليين»، والحكام «البرسونا»؟ يبقى الاعتذار قبل الكلام، من جبران وحده... عند بدء العمل على تأليف «لقاء قرنة شهوان»، لم تكن مشاركة جبران مطلوبة، ولا مرغوباً فيها. وحدها اللفتة الى حاجة ما الى جريدة «النهار»، فتحت الباب للبحث مجدداً، لكن «التحفظات» ظلّت ثقيلة، فوجهت الدعوة الى غسان تويني، عميداً أرثوذكسياً من الصيغة الأولى من اللقاء السيادي المعارض الأبرز.
مرت الأيام، دُوّرت زوايا وشُذّبت نواتئ علاقات شخصية، حضر الأب بضعة اجتماعات، ليحل بعده جبران، عضواً مؤسساً، فبدأ المشوار الجدي للقرنة. منذ البداية اتضحت طبيعة العلاقة المفارقة بينه وبين من يعرفه. في صوته جرأة قلّما تحتملها السياسة اللبنانية، وفي شخصه منسوب من حقائق الرومانسية والثورية، لا تتكيّف مع «خشبيات» الاستابليشمانت اللبناني.
في أحد الاجتماعات الأولى، بدا كمن يعطي نوتة تمرّده الأبدي: ثمة اتهام مكتوم في الوسط السياسي لمسؤول كنسي في قضية قرصنة الاتصالات الدولية، وثمة طلب سوري مباشر من غازي كنعان الى رفيق الحريري، ليقوم الأخير بالضغط المالي والمصرفي على «زميلنا» الياس سكاف لإخراجه من «القرنة»... «أدعو الكنيسة الى جلاء النقطة الأولى، وأدعو اللقاء الى إصدار بيان تضامن مع الياس بيك، يعرض حقيقة ما يتعرّض له».
هكذا كان يقارب الألغام الأشد فتكاً، بكلام كالسهم صوب الحق. لم يكن ينتبه الى أنه يرمي القنابل بحروف، أو كان يعرف ويدرك، ويبتسم حين تنفتح الدرب لسهمه.
وكان مع كل كلمة يراكم رصيد الحقيقة، ورصيد الحقد عليه، ويمشي. في 7 آب 2001، كانت الخيارات قليلة، وجلّها صعب. أما هو فلم يكن يهتم: «نعلن الآن نقل مكان اجتماعنا الى اليرزة، نعتصم هناك حتى إطلاق رفيقنا توفيق»... تكثر الابتسامات، يسقط الاقتراح، وتتوالى الضربات. لكن أشدها وقعاً على جبران، جاء بعد أقل من سنة. توفي ألبير مخيبر، فتحت معركة فرعية في المتن الشمالي. فوتح جبران من بعض «القرنويين» بترشيح نفسه، اقتنع، صعد الى الاجتماع وصارح زملاءه: «أكيد بعتبر حالي مرشح طبيعي، لأني ما بتمنى كون مرشح بعد 3 سنين ببيروت، ومضطر اطلع ببوسطة رفيق الحريري».
لم يوافقوه، اجتمعوا عليه وعادت الاتهامات، القديم منها والمستحدث. عشيّة أحد الاجتماعات المفصلية، بلغه خبر «قرار» يُعدّ ضدّه. لم يبق له غير أصدقاء قلّة. مرّ القطوع. عادت «النهار» حاجة، فعاد الأصدقاء كثرة، عادوا جميعاً، وظل يبتسم...
في المقلب الآخر لم تكن علاقته أفضل. يعرفون صراحته و«وقاحته» والحاجة إليه، ويعرف تلوّنهم والأمر الواقع. استشهد الحريري، صارت «القرنة» 14 آذار، دخل إليها مكرِّمو «أبو عبدو» قبل أيام، ومتقلّبو كل يوم، حملوا خبثهم والبسمة المزوّرة وجلسوا الى جانبه. بعد كل اجتماع في «البريستول» أو قريطم أو المختارة، كان يعود الى مكتبه، يغسل يديه، يُسرّ بالحقائق، ويكمل ويغسل...
شكلت لوائح بيروت في ظل «التحالف الرباعي». أحسّ بثقل وحراجة. فراح يرفع السقف. صارت الهوّة تتسع تدريجياً بينه وبين حلفائه. هم في انتخابات بعبدا، وهو وحيداً في انتخابات القرار 1559 ومحكمة الجزاء الدولية والمعتقلين في السجون السورية. ولم تمر الفجوة في الخطابين من دون أثر اقتراعي. «طلبوا من مناصريهم شطب اسمي. حتى الفائزون بالتزكية أوعزوا الى جماعاتهم بعدم الاقتراع»، كشف همساً مرة: «يريدون تحجيمي، وعدم ظهوري رقماً بيروتياً أولّ»... وظل يبتسم.
بعد الانتخابات قال لصديق: «حين يخاطبني أحدهم بالقول «سعادة النائب» ألبث ثواني متفرّساً في وجهه، لأتأكد ممّ إذا كان يهزأ مني». لم يعتد اللقب ولا الموقع. «في 128 نائباً، بس في «نهار» وحدي، سأظل جبران النهار، لا جبران النائب».
لكنهم لم يتركوه. جاءت رسالة التهديد الأولى خطية في شكل إنذار. بعدئذ جاء الإنذار «الرسمي» الدولي فسافر على سقف تصاعدي، والبسمة. وحتى في تهديده وسفره لم يرعوِ الظالمون. قبل أيام من استشهاده، خرج أحد أقطاب 14 آذار بكلام صحافي يقول فيه «حزب الله جزء من المنظومة الدفاعية في مواجهة إسرائيل، خلافاً للكلام الذي يتحدث عنه بعض الناس مثل جبران تويني الذي لا أوافقه على ما يقوله... حتى بعد تحرير مزارع شبعا، تحافظ أيضاً بالمقاومة على دفاعك في لبنان والدفاع عن الخاصرة السورية... لم أسمع بلائحة سوداء (للاغتيال) لكن بعض هذا الكلام عن لائحة سوداء أُشيع ليكون حجة للسفر والإقامة في باريس... السيد حسن نصر الله هو ضمانة الوحدة الوطنية... الذين يتفلسفون بأن العمليات كما قال جبران تويني يجب أن تكون مقررة في مجلس الوزراء، فإن هذا سخيف... أنا أجيب جبران تويني... ولا أريد أن أعلّق أكثر من ذلك».
صار جبران بلا حماية ولا حليف. يقود صوب أحلامه بسرعة ضوء عينيه، ولا حزام أمان. بعد ساعات على كلام القطب الحليف، انفجر جبران، قيل إن نجمة انطفأت، قيل إن كون قلّةٍ انفجر. لكن الكثرة لم يفتها الحفل والتكريم.
رسالة شخصية: أعتذر عن الغياب يا صديقي. سأكتفي بهاتفك المقفل وبالدمع سراً، وبالسلام الليلي البعيد... حتى نلتقي.