جوزف سماحة
تدور مواجهة سياسية عنيفة، اليوم، بين «حزب الله» و«تيار المستقبل». تدور بين كتلتين شعبيتين متماثلتين حشداً وقدرة على التعبئة. إن هذه المواجهة هي مصدر الخوف الدائم من تدهور الأزمة نحو «فتنة مذهبية». من الضروري، والحال هذه، مراقبة السلوك اليومي والخطاب السياسي لهاتين القوتين من أجل توزيع عادل للمسؤولية عن الاحتمالات الخطيرة التي يمكن دفع لبنان نحوها.
عند اندلاع الأزمة فعلاً، أي غداة العدوان الإسرائيلي، كان يمكن القول إن «حزب الله» يتمتع بحلفاء جديين في البيئة المذهبية لـ«تيار المستقبل». ثمة رؤساء وزراء سابقون، وشخصيات ذات اعتبار معنوي، وتنظيمات أصولية، وأحزاب قومية، وجدوا أنفسهم، بصورة إجمالية، أقرب إلى المواقف السياسية التي عبّر عنها «حزب الله».
في المقابل بدا أن «تيار المستقبل» يراهن على الفصل بين «الحزب» و«حركة أمل». ولما سقط هذا الاحتمال، بات الاهتمام منصبّاً على أسماء وأصوات هي على هامش الهامش، وتمثّل حالة إعلامية أكثر منها حالة سياسية وشعبية جديّة.
يمكن القول، إلى ما شاء الله، إن الخلاف بين قطبي الحالة الإسلامية في لبنان هو خلاف سياسي. وهو كذلك فعلاً. إلا أننا في لبنان. وفي لبنان يحضر الطابع الطائفي بالضرورة، وفي هذه الحالة، الطابع المذهبي. ولهذا الطابع صلة بالطبيعة التكوينية للقوى السياسية، فضلاً عن الصلة بالخطاب السياسي والأيديولوجي. إلا أن التسليم بهذه الحقيقة لا يجيز لنا أن نتغافل عن التدخل الإرادي والواعي لدفع الأمور نحو وجهة محددة. ونلاحظ، هنا، أن تدخل «الحزب» سار في اتجاه معاكس لتدخل «التيار».
لقد بدا «حزب الله» مقاتلاً من أجل نفي المذهبية عن خلافه مع «المستقبل» وحريصاً جداً على تأكيد المضمون السياسي للتباين. والمرء ميّال إلى تصديق الأمين العام حسن نصر الله وهو يقدّم المطالعة تلو المطالعة عن انتفاء أي بعد آخر، غير سياسي، عن المواجهة. ولقد كان الوجه الآخر لذلك هو الجهد الذي بذله «الحزب» لتأكيد البعد الوطني للصراع وللتركيز على المواقع التي يحتلها حلفاؤه المسيحيون (التيار الوطني، المردة)، والدروز، والسنّة في جبهة الدعوة إلى حكومة جديدة. وكان جليّاً أن مجريات الوضع العراقي تحضر كفزاعة في وعي «الحزب» وأنه كان يحاول امتصاص آثارها، ما أمكن، بالاستحضار الدائم للقضية الفلسطينية وبالاستعانة بالحركات الإسلامية والقومية واليسارية العربية.
ويمكن القول، بثقة، إن «الحزب» كاد يندفع نحو تشجيع قدر من الانشقاق الشيعي، وتمنى انضمام شخصيات شيعية إلى صفوف «14 آذار» إذا كان ذلك يساعد في تظهير الاصطفاف بأنه وطني وبأن كل معسكر يضم تلاوين عاكسة للتنوّع اللبناني.
وفي سياق العلاقة التي يحرص عليها «الحزب» مع قوى وشخصيات في البيئة السنية، يبدو واضحاً أن فكرة مقاومة إسرائيل وممانعة المشروع الكولونيالي الأميركي هما قاعدة المخاطبة ووسيلة استنفار الوجدان القومي والإسلامي... أو ما بقي منه. وتقتضي الحقيقة القول، بعد حصيلة المواجهة الأخيرة مع العدوان، إن آمال «الحزب» كانت في محلها جزئياً.
في مقابل سلوك «الحزب» بدا «تيار المستقبل» مقاتلاً من أجل تظهير الجانب المذهبي للنزاع. لقد بادر إلى استخدام التعبئة الداخلية العالية من أجل تصفية جيوب اعتراضية في بيئته أو، على الأقل، محاصرتها. سمعنا عن إهانات لشخصيات، عن استفزازات، عن محاصرة مواقع ومراكز، عن تحرّشات، عن اعتداءات جسدية... لم يكن الاعتراض مسموحاً به ولا حتى الانشقاق. كان الهدف الواضح الإقدام على «تطهير سياسي» ينبذ الشوائب ويؤمّن أعلى قدر ممكن من الصفاء. ولقد كان لافتاً، في موازاة ذلك، الانكفاء الذي مارسه حلفاء «المستقبل» (بطلب منه) المسيحيون والدروز. ليس انكفاءً كاملاً، لكنه إفساح في المجال للحليف الأكبر كي يأخذ موقع الصدارة ويذهب نحو كسر خطوط حمراء كان يحترمها حتى الآن. لقد أمكن، في مرحلة سابقة، الاحتفاظ بلغة تخاطب معتدلة بين «الحزب» و«التيار» لإبقاء الجسور مفتوحة، وكان حلفاء «المستقبل» يتولّون التصعيد. إلا أن التكتيك اختلف هذه المرة إلى حد أنه بات يمكن المراقب أن يلمح بوادر حكمة وهدوء لدى هؤلاء الحلفاء قياساً بما يصرّح به منتمون إلى «المستقبل» ساعون إلى ابتسامة رضى من زعيمه.
انكفاء «حلفاء المستقبل» أُريد له أن يتحوّل إلى إلغاء لحلفاء «الحزب». ولقد بذل جهد غير عادي من أجل التركيز على «المبارزة الثنائية» المُلغية للآخرين من الطرفين، تحقيقاً لهدفين: حرمان الحزب تحالفه الوازن في البيئة المسيحية، وتعقيد أي حل للأزمة بمجرد تقديمها صراعاً مذهبياً.
الشعارات التي رفعها «المستقبل» للمواجهة تثير حساسية مذهبية («كرامة بيروت»، «موقع رئاسة الحكومة»، تحريم انتقاد «المعتدلين العرب»، إلخ...). ومن يراقب بدقّة يلاحظ أن نوعاً من تقسيم العمل نشأ. للرئيس فؤاد السنيورة دور رجل الدولة العاقل، الهادئ، المحاصر، الحريص على المؤسسات، الداعي إلى الحوار، المدافع عن ممارسات حكومته... لرئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري دور الدخول في السجال السياسي، واتهام الخصوم بأنهم أداة في محور إقليمي، واستحضار جمهور رفيق الحريري، والإيحاء أن التناقض بين العروبة الأصيلة والشعوبية، إلخ... وللمؤسسة الدينية المذهبية، من القمة إلى القاعدة، دور الهجوم الصريح على «الحزب» وأمينه العام. وجرى التسامح، هنا، مع استخدام ترسانة شبه تكفيرية ذات مضمون مستقى من تنويعة زرقاوية. ولا مبالغة في القول إن الخطاب الأخير كان هو الخطاب التعبوي الأقوى، وخاصة في الأرياف المهملة (عكار، الضنية، البقاع الغربي، الإقليم...) ولدى الأوساط الشعبية القلقة التي يصعب حشدها بشعارات ذات صلة بباريس ــ 3 وخصخصة قطاعات الاتصال والكهرباء.
يجب أن نضيف إلى ذلك استنفار أقلام سعودية تراوح بين الوهابية الصافية والليبرالية الحديثة النعمة. ولقد وجد أصولي مرتدّ نيوليبرالي مستجدّ أن في معركة «الثلث الضامن» أصداء معركة تدور منذ قرون!
كانت تلك هي المفارقة التي حكمت الأيام الأخيرة. «الحزب الأصولي» يجاهد لوضع المواجهة في إطار سياسي ــ وطني، و«التيار الحداثي» يجاهد للارتداد نحو قوقعة مذهبية، متناسياً، بين أمور أخرى، عدد النواب المسيحيين في كتلته النيابية.
قد يقول قائل إن «حزب الله» يتحمّل قسطاً من المسؤولية في إذكاء الطابع المذهبي بحكم تركيبته. إلا أن السؤال، عندما يتناول جانب التدخل الواعي في العمل العام، يخلص إلى جواب مخالف. إن «تيار المستقبل» هو الذي أوصل الاحتقان المذهبي إلى هذه الدرجة العالية. لقد تراءى له أنه قد يخسر المعركة السياسية، ولكنه يحدّد خسارته في حال انزلاق الأمور إلى حيث هي الآن. ربما كان مصيباً بعض الشيء، إلا أنه، بالتأكيد، قصير النظر إلى أبعد حد. لقد كشف عن الأزمة التي تضرب النخب الحاكمة، لا في لبنان فقط، بل على صعيد عربي. لكن هذا بحث آخر.