جوان فرشخ بجالي
علماء الآثار المختصون بحفريات الإنقاذ، يعملون في بيروت على قدم وساق تحت إشراف المديرية العامة للآثار، بغية إتمام عمليات التنقيب على الطرقات التي ستوسَّع، أو في مناطق إعمار الأبنية. ففي شارع لبنان بمنطقة الأشرفية استُدعي الفريق حينما كشفت عملية البناء عن مقبرة رومانية. ويشرح أسعد سيف المسؤول عن حفريات الإنقاذ في المديرية العامة للآثار «أنه بعد الإبلاغ باكتشاف الآثار، نبدأ بأعمال التنقيب التي يمولها صاحب المشروع والتي لا تتعدى ميزانيتها %1 من الكلفة الإجمالية للبناء المتوقع إنشاؤه». ويؤكد قائلاً إن العمل جارٍ حالياً «بالاتفاق مع أصحاب المشاريع لعرض بعض من القطع المكتشفة داخل الأبنية التي سترتفع لاحقاً في مكان الحفرية». وتُعَد هذه الخطة خطوة ممتازة ــ وإن أتت بعد سنين من الدمار والحفريات السريعة ــ للمحافظة على هوية المكان الأثرية، وبالتالي على تاريخ العاصمة التي دفعت هويتها التاريخية ثمن إعادة إعمارها. الجدير بالذكر أنه جرت العادة في السابق القيام بحفريات أثرية سريعة جداً يصعب من بعدها إجراء دراسات معمقة تسلط الضوء على بعض نواحي الحياة التي كانت متبعة في المنطقة في العصور القديمة. وبحسب أسعد سيف «إن هذا هو هدف حفريات الإنقاذ التي تجري حالياً».
ويشرح قائلاً: «حفريات المقابر الأربعين في الأشرفية طرحت مسائل جديدة تتعلق بطقوس الدفن التي اتبعها سكان هذه المنطقة في الفترة الرومانية». فما هو معروف أنه كان لدفن الموتى من هم مختصون به، وهم «يحضِّرون» طقوس الدفن بحسب المبالغ المدفوعة. فالنواويس الحجرية مكلفة أكثر من البرونزية أو الفخارية. وكذلك الأمر بالنسبة للأواني الزجاجية للزيوت المعطرة التي توضع قرب الأموات. فالحفريات التي قام بها الفريق المختص تحت إشراف عالم الآثار فادي بعينو حاولت فهم طقوس الدفن التي كان يُعمَل بها في بيروت منذ ألفي سنة.
وما يسمح لهذا الفريق بـ«فهم تركيبة الموقع» هي طريقة التنقيب المتبعة التي تتميز بدقتها، وقد أظهرت بعضاً من الحقائق التي لم تكن معروفة قبل ذلك، مع العلم بأن هذه المقابر ليست الأولى المكتشفة في منطقة الأشرفية. ويقول أسعد سيف: «بعد حفر الموقع تبين لنا أن هذه القطعة من الأرض، وهي مخصصة للدفن، كانت مقسمة بشكل هندسي واضح وضعت فيه النواويس التي تتميز عن بعضها بنوعية المواد التي صنعت منها. فهناك نواويس من النحاس، مزخرفة على جوانبها وأخرى من الفخار الصلب البسيطة جداً وأخرى من الخشب الذي تفتت مع الزمن، ولم يبق من دليل على استعماله إلا بعض المسامير التي ظهرت خلال التنقيب». والجدير بالذكر أن هذا الاستنتاج غيّر بعضاً من المفاهيم القديمة، إذ جرت العادة عند العثور على هياكل عظمية في مقبرة من دون نواويس أن يُعتقد أن الجثمان كان قد «وضع» داخل المقبرة. إلا أن هذه الحفرية أثبتت عكس ذلك، فالنواويس المستعملة كانت من خشب اهترأ مع مرور الوقت.
كما أن علماء الآثار الذين عملوا في المقبرة الرومانية في الأشرفية يحاولون اليوم تحديد طريقة استعمال المقبرة. فهل كانت العادة تقضي بحمل الناووس الذي وضع بداخله الجثمان حتى المقبرة، ومن ثم وضعه في الأرض؟ أم تحفر المقبرة ويوضع الناووس بداخلها، ومن ثم تترك الجثة داخله؟ ويقول سيف: «إن الإجابة عن هذه الأسئلة تُحَدَّد بعد استكمال دراسة تراكم الطبقات في الموقع».
ولم ينته عمل فريق الحفريات هذا، بل تحول إلى موقع آخر. فالمارّ في منطقة العدلية ــ المتحف، أو طريق المطار يراهم منهمكين بالعمل في الحفريات على جانبي الطريق. فهم يشرفون على ورشات مجلس الإنماء والإعمار المُدرجة ضمن برنامج «تطوير المحاور لمشروع النقل الحضري في بيروت» الذي يهدف إلى تخفيف ضغط السير ببناء جسور أو إنشاء ممرات تحت الأرض. ويشرح سيف «إن المديرية العامة للآثار كانت قد اشترطت على المشروع تمويل حفريات أثرية تستبق الإنشاءات وتحدد الأهمية التاريخية لكل المحاور».
وكان لفترة ما قبل التاريخ القسم الأكبر من الاكتشافات. على طريق المطار عُثر على «ورشة» كانت تنقش فيها أحجار الصوان التي سيدرسها المختصون لشرح أكثر عمقاً لهذه الفترة. ستتابع هذه الفرق التنقيبات في مختلف أنحاء العاصمة وستُدرس كل المكتشفات وتُنشر لاحقاً في المجلات العلمية المختصة.