جوزف سماحة
عندما ألقى الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله خطابه في المعتصمين، وكان خطاباً صريحاً وعالي النبرة، أجمع الناطقون باسم السلطة على الرد عليه بعنف. لهجة الرد قد لا تكون مهمة. المهم هو التقدير السياسي الذي أريد له أن يشيع في تفسير الخطاب. هنا، أيضاً، حصل الإجماع: الخطاب تعبير عن مأزق. توالى أقطاب الأكثرية الحكومية والنيابية على تأكيد وصول المعارضة إلى حائط مسدود، وعلى إقفال الأفق في طريقها، ووجدوا في الخطاب محاولة مستميتة ويائسة لكسر الحصار.
ثم جاءت تظاهرة الأحد. كانت حاشدة باعتراف الجميع. أي، بكلمة أخرى، لم تكن التظاهرة التي ينجح في تنظيمها من يعاني مأزقاً شديداً. ولم يكن سهلاً، هذه المرة، التشكيك في ضخامة الحضور ولا في حجم مشاركة أطياف المعارضة كلها. وكان من الطبيعي في ديموقراطية سويّة أن تستشعر السلطة قوة التحرك ضدها، واستمراره، وتصاعده وأن تفتح بالتالي باب التسوية التي يمكنها، وحدها، أن تداوي ما بات مؤكداً أنه جرح غائر في النسيج الوطني.
غير أن السلطة خرجت من التظاهرة بأشد الاستنتاجات غرابة. رأت أن التحرك وصل إلى ذروته، وأنه، مثل أي ظاهرة طبيعية، سيبدأ بالانكفاء. تراءى للبعض أن النصر صبر ساعة وأنه لم يعد مطلوباً سوى الانتظار ورؤية هذا الزخم يتبدّد. يعني هذا الاستنتاج أن السلطة كانت ستقلق لو أن التظاهرة فشلت لأن هذا سيعني احتمال تحرك أكبر. أما وإن الحشد هو الأكبر فهو يؤذن بأن الأيام السوداء مرّت وأن الأوان هو أوان التفاؤل.
لقد كان التحالف صعباً مع أطراف سياسية تفكر بهذه الطريقة. إلا أن الاختلاف يبدو أشد صعوبة. فإذا كان هناك من يرى في خطاب المصارحة والتعبئة مأزقاً ويعتبر أن الترجمة الناجحة للخطاب في حشد استثنائي تعميق لهذا المأزق فذلك يعني تشكيكاً في إمكان استواء الحياة السياسية على قاعدة راسخة.
نعم هناك مأزق. ونعم إن المعارضة في مأزق. إنه المأزق الخاص بأي حركة سياسية لم تصل، بعد، إلى تحقيق أهدافها. لكن الحقيقة تقتضي القول إنه بين معارضة ساعية إلى أهدافها وبين سلطة عاجزة عن ممارسة مهماتها فإن المشكلة الأكبر هي في الطرف الثاني، مع ما يعنيه ذلك من ضرورة التنبّه إلى أننا، في الحقيقة، أمام مأزق وطني.
تعترف «الأكثرية» بوجود أزمة حكم. واللافت أنها رحبت ببيان المطارنة الذي يشير إلى معضلة ما في رئاسة الجمهورية والحكومة معاً. أكثر من ذلك، ثمة توافق لبناني عام وشامل على أن الحل كامن في سلّة خطوات: حكومة وحدة وطنية، المحكمة الدولية، قانون انتخاب جديد، انتخابات نيابية مبكرة، انتخابات رئاسية مسبقة... يدل هذا التوافق على الشعور العام بأن المؤسسات كلها مصابة بشكل أو بآخر، وبأن إعادة التأسيس واجبة.
وعند التدقيق في المخارج المقترحة وفي التسويات المطروحة، نجد أن الاختلاف هو على الترتيب الزمني للخطوات. والفرق الأكبر كامن بين رأيين. يرى الأول أن على البرلمان الحالي اختيار رئيس على أن تحصل انتخابات نيابية لاحقاً، ويرى الثاني أن من الأفضل اللجوء إلى الشعب عبر الاقتراع العام أولاً على أن يلي ذلك اختيار الرئيس.
ليس القصد، هنا، الدخول في تفضيل هذا الترتيب أو ذاك. القصد هو تقديم الدليل على أن الأزمة عامة باعتراف الذين يزعمون أنها، حصراً، في المعارضة. لا بل إن الأزمة هي، في العمق، أزمة «الأكثرية الحاكمة».
لنفترض أن تحرك المعارضة توقف اليوم وأنها أصرّت على موقفها. كيف يستمر الحكم بهذه السلطة العرجاء؟ كيف يعاد ترميم العلاقات الوطنية؟ كيف يدار الاقتصاد في ظل هذا الحجم الاعتراضي؟ كيف نحل القضايا الخلافية الكبرى خارج التوافق؟
لقد بات الاستقرار شديد الارتباط بإحداث قدر من التغيير ومن احترام التطلّب الذي عبّر عنه قسم كبير من اللبنانيين. إلا أن الحائل دون ذلك هو تمسّك السلطة بموقفها وإسنادها هذا الموقف إلى سوء قراءة للوضع في لبنان والعوامل المؤثرة في أزمته.
لا يمكن الثقة بسلطة تعتبر أن ما يجري هو الدليل الحاسم على مأزق... المعارضة. فهذا الاعتبار ينمّ عن جهل كامل بموازين القوى وديناميتها. إنه حساب مبنيّ على افتراض أن تنجح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وتوفّر الأسس السياسية المطلوبة لما عجزت إسرائيل عن توفيره في لبنان بالعدوان العسكري.
ويقودنا هذا مباشرة إلى تقرير بيكر ـــ هاملتون. نضع جانباً التوصيات التي خرج بها. نكتفي بعرضه للواقع «الخطير والمتدهور» في العراق والآيل إلى تفجير المنطقة وإلحاق أذى كبير بموقع الولايات المتحدة فيها. التقرير مصيب في هذه الناحية، أي، بالضبط في الناحية التي تراهن السلطة اللبنانية على أنه مخطئ فيها.
إذا كان مأزق المعارضة، في عرف الحكم، هو في الحشد الذي يلبي نداءها وفي الزخم المستمر للتحرك، وفي احتمالات اللجوء إلى أشكال احتجاجية جديدة، فإن هذا «المأزق» آخذ في التعاظم. ربما وصل هذا «المأزق» إلى حد «تورّط» المعارضة في فرض إجراء انتخابات نيابية مبكرة، وعندها ننتقل من «المأزق» إلى «التورّط» إلى «كارثة» التحوّل إلى أكثرية شرعية!