نقولا ناصيف
قبل مجيئه إلى بيروت، استعاد الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى ــ وهو بعد في واشنطن الاثنين الفائت (11 كانون الأول) ــ ما اعتبره مبدأً شهيراً اخترعه لبنان هو «لا غالب ولا مغلوب»، في معرض حديثه عن مسعاه لدى الأفرقاء اللبنانيين الذين يريدون، في رأيه، الخروج من المأزق الحالي، وأنه يريد أن يستلهم هذا المبدأ إطاراً لجهوده سعياً إلى التوافق. تردّد هذا المبدأ أيضاً أكثر من مرة في الأيام الأخيرة توصّلاً إلى حكومة جديدة لا غالب فيها ولا مغلوب.
وللأمر مغزاه المزدوج عند القائلين به لانطوائه على حسن نية مقدار تضمّنه خبثاً وسوء نية في الوقت نفسه: أن يؤخذ ممن السلطة كلها في يده، أو أن يعطى إياها لمن يفتقر إليها. والاحتمالان يقودان إلى خلاصة واحدة، هي أن على القوي أن يتخلى عن معظم مصادر قوته من أجل أن يوازنه بها الطرف الآخر. لكن المفارقة أن أياً من الطرفين المتنازعين، الغالبية الحاكمة والمعارضة، لم يقل بما نادى به موسى: لا قوى 14 آذار ترضى في واقع الأمر بقاعدة «لا غالب ولا مغلوب» لأنها تفقدها كل مكاسبها في السلطة التي ترتّبت على انقلابها السياسي في 14 آذار 2005 ثم في انتخابات 2005 وصولاً إلى حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، ولا المعارضة، ولا حزب الله خصوصاً، مع هذه القاعدة ما دامت تقول بحكومة وحدة وطنية بثلث زائد واحداً للمعارضة يتناقض مع «لا غالب ولا مغلوب»، لكون هذا النصاب يمكّنها من السيطرة الفعلية على مصير الحكومة وقراراتها.
وفي ظلّ تجاذب كهذا يصبح شعار «لا غالب ولا مغلوب» عديم الجدوى:
ــــــ لأن الغالبية، خلافاً لمناوراتها العلنية، لن تتخلى عن ثلثي مقاعد الحكومة إلا بالطريقة التي حصلت بها عليهما، أي الانقلاب السياسي الذي تستبعده أوساطها في ضوء دعم دولي غير مشروط وغير محدود لحكومة السنيورة.
ــــــ ولا المعارضة ستخرج من الشارع قبل تحقيق هذا الانقلاب، وإن هي تتعمّد تجاهل استخدام هذا التعبير الذي يرمي إلى تقويض السلطة المركزية للغالبية الحاكمة. وفي أوساطها المغلقة تناقش المعارضة، ولاسيما أفرقاؤها الثلاثة (الرئيس نبيه بري وحزب الله والتيار الوطني الحرّ)، اقتراحات عدة من بينها إطالة أمد الاعتصام المفتوح إلى ما بعد الأسبوع الأول من كانون الثاني من السنة المقبلة، أي بعد الأضحى، بغية استنزاف الغالبية والسرايا المحاصرة بمئات الخيم.
فهل ثمّة عبرة تقودها قاعدة «لا غالب ولا غالب» في بلد ــ وإن بعد سنوات طويلة ــ تتكرّر فيه الأحداث وتتطابق الوقائع وأحياناً الأبطال، وتعيش فيه طويلاً ودائماً الحلول القديمة حتى تبدو مرات حلاً مبتكراً وجديداً، لا أمثولة عجوزاً فحسب؟
«لا غالب ولا مغلوب» شعار أطلقه في تشرين الأول 1958 الرئيس صائب سلام قائد «المقاومة الشعبية» البيروتية لحكم الرئيس كميل شمعون على أثر انتهاء النزاع الطائفي سنتذاك بتسوية أميركية ــــــ مصرية، هي انتخاب الرئيس فؤاد شهاب. وخلافاً لما شاع ولا يزال من أن الشعار طرحته الحكومة الأولى للرئيس رشيد كرامي في 24 أيلول، فالواقع أنه طُرِح بين حكومتين لم يفصل بينهما إلا بضعة أيام. بعد تسلّم شهاب سلطاته الدستورية، كلّف كرامي تأليف الحكومة الجديدة، وسرعان ما مهّد لها الأخير بالقول من طرابلس إن حكومته جاءت «تقطف ثمار الثورة». وكان قد ضمّ إليها شخصيات بعضها سياسي والآخر ذو كفايات يُوزّر للمرة الأولى، وضمت شارل حلو وفيليب تقلا ويوسف السودا ومحمد صفي الدين ورفيق نجا وفريد طراد وفؤاد النجار. وكان رئيسها شخصية مناوئة لشمعون وثلاثة من وزرائها على الأقل ضدّ الرئيس السابق وهم حلو وتقلا والسودا. ولم يدخلها أي من الذين حاربوا في صفوف شمعون.
استفزّ كلام كرامي الشيخ بيار الجميل الذي انتهز مناسبة اغتيال الصحافي في جريدة «العمل» فؤاد حداد («أبوالحن») وأعلن «ثورة مضادة» بقيادة حزب الكتائب أعادت المتاريس والخنادق وخطوط التماس بين رمزي «ثورة 1958»: الجميزة والبسطة. استؤنفت الاشتباكات وأعمال الخطف المتبادل وقطع الطرق على نحو كاد يجعل عهد شهاب ينهار قبل أن يبدأ. عندئذ طرح سلام شعار «لا غالب ولا مغلوب». وتفادياً للشارع الذي انفجر طرح الرئيس شهاب مخرجاً متوازناً قضى بتأليف حكومة رباعية أبقت الزعيم الطرابلسي رئيساً لها وضمّت وزيرين سنيين هما كرامي وحسين العويني ووزيرين مارونيين هما الجميل وريمون إده. ولم يكن بينهم وزير شيعي أو من سائر الطوائف. كانت فكرة رئيس الجمهورية توزير شيعي ودرزي آخرين، فاكتشف أن ذلك يخلّ بالتوازن الطائفي في حكومة ستنقص أرثوذكسياً وكاثوليكياً. عندها فضّل صبري حمادة، الذي رُشّح للتوزير في الحكومة الجديدة، أن يُنتخَب رئيساً لمجلس النواب عوض منصبه الوزاري، فكانت الحكومة رباعية.
وللمرة الثالثة على التوالي منذ الاستقلال، بعد حكومة العويني عام 1951 التي أشرفت على الانتخابات النيابية والحكومة الانتقالية برئاسة شهاب عام 1952 التي أشرفت على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، خلت الحكومة الرباعية من وزير شيعي. لم يُثر في ذلك الحين خلل تمثيل هذه الطائفة ــــــ ولم تكن آنذاك طائفة كبرى في الحسابات السياسية الداخلية حيال قطبي الحكم (الموارنة والسنّة) ــ نظراً إلى أن الأفرقاء جميعاً قاربوا الحكومة الرباعية على أساس أنها «حكومة إنقاذ وطني» انتقالية. لكن المقصود بتلك الحكومة، تبعاً لشعار سلام الذي كرره في السنوات التالية، إعادة التوازن إلى الوضع الداخلي بعد «ثورة 1958» على نحو لا يُشعر الذين وقفوا إلى جانب شمعون، وكان الجميل وحزبه في طليعتهم، أنهم خسروا «ثورة 1958». ولا الذين وقفوا في المعارضة ضد رئيس الجمهورية وكان على رأسهم كرامي وسلام وكمال جنبلاط أنهم انتصروا بمجيء شهاب رئيساً.
رسمت الحكومة الرباعية ملامح تسوية سياسية داخل السلطة الجديدة: وزيران محاربان هما كرامي والجميل، وآخران مسالمان هما العويني وإده. وعلى رأس هؤلاء رئيس للجمهورية أقوى من الأفرقاء جميعاً، موثوق به ويحظى باحترام وزرائه وامتثالهم له، وفي وسعه خصوصاً أن يفرض عليهم احترام الدستور والقانون وإعادة الاستقرار والأمن.
فهل يطمح موسى إلى حلّ مثالي كهذا؟